أمَر الله في سورة الأحقاف، الآية 9، نبيَّه محمَّدًا بمخاطَبة قومه: {قُلْ ما كنت بِدْعًا مِن الرّسل}، (أي مخالِفًا لِما دعا إليه الأنبياء قَبْلي). وهو سبحانه بهذا، يُقرِّر أن الرسالة المحمَّديّة لم تأتِ بأمر جديد لم يكن الأنبياء عليه مِن قَبْل؛ وإنما أُعيدَ بِناءُ المفاهيم الدينية من جديد. والمقصود بالمفاهيم، المعتقدات والطقوس والأحكام. فهذه كانت قائمة أصلًا في الثقافة حينذاك، ثم إنَّ الجوانب العملية منها كانت تُمارَس.
التوحيد مثلًا (وهو إفراد الله بالألوهية)، كان معروفًا في فترة البَعْثة المحمَّديّة لدى الحُنَفاء، وكانوا يرفضون أنْ يُشْرِكوا بالله أيَّ مخلوق من البشر أو الحجر أو غيرهما. والصلاة كان يَتعبّد بها أصحابُ الأديان السابقة، وهكذا في سائر المعتقدات والشعائر والأحكام. بَيْد أن التفكير الإسلامي، وهو يواجه "عِلم مقارنة الأديان"، والذي ابتدأ مِن قِبَل الحركة الاستشراقية، التي نشطت أثناء الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية؛ رفض معطَيات هذا العلم، متَّهمًا إياه بالتشكيك في الأديان، لإضعاف الروح المعنوية لأَتْباعها.
بعيدًا عن ذلك الصراع الفكري، والذي –بنظري- قد ولّى زمانه، لا سيَّما بعد أن ترسَّخَت الكثير من المناهج التي تُعنَى بدراسة الأديان؛ فإنه من المهمِّ إعادة النظر في آليَّة بناء المفاهيم الدينية. وهذا يحقِّق أمورًا، منها:
- تأكيد السِّياق التاريخي الذي جاء فيه الإسلام، والذي طرحه القرآن في إطار سلسلة النبوَّات المتتابعة، وكان من أدلَّة إثبات نبوّة النبي محمد، في حين يطرحه "علم مقارنة الأديان" بمفهوم تَطوُّر العقائد والطقوس الدينية.
- فَهْم طبيعة الإسلام، وكيفية معالجته للمشكلات الإنسانية. فهو لا يصطدم بالطبيعة البشرية، التي تتعلق بمعتقداتها التي ورثتها من الأديان السابقة؛ وإنما أعاد بناءها وتفعيلها في النظام الديني الجديد، المنسجم مع المجتمع الذي ينتشر فيه، وَفْق أصول الدين الأساسية. وهي: الإيمان بالله واليوم الآخر، والأخلاق الفاضلة، والعمل الصالح.
- إمداد المفكِّر الإسلامي وعالِم الدين، بأدوات تُمكّنه من إعادة بناء المفاهيم الدينية، بما يَتوافق مع التغيُّرات الحضارية الكبرى، في ضوء أصول الدين الأساسية؛ ما يَمنح الإسلام حيويّة مستمرة، وفاعلية مُنتِجة، ورؤية تعدُّدية.
الإسلام -وهو يعيد بناء مفاهيمه- كان يَعمد إلى ما هو قائم، فيضعه في سياق النظام الجديد. وهذا له شواهد في القرآن، إذْ يقول الله في سورة المائدة، الآية 12: {ولقد أخذ اللَّهُ ميثاقَ بني إسرائيلَ وبعثنا منهمُ اثني عشر نقيبًا وقالَ اللَّهُ إنّي معكُم لئن أقمتمُ الصَّلاةَ وآتيتُمُ الزَّكاة وآمنتم برسلي}. فالصلاة والزكاة قد مارسهُمَا بنو إسرائيل مِن قَبْل، فأصبحا من أركان الإسلام. وفي سورة البقرة، الآية 183: {يا أيُّها الَّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتبَ على الَّذين من قبلكُم}. فالصوم قد عرفَتْه الأمم الغابرة، وظلَّ مستمرًّا في كثير منها. فأُعيدَ فرْضُه على المسلمين. والحجُّ إلى الكعبة كان قائمًا لدى العرب، فلم يُلْغِه الإسلام، بل جعله شَعِيرة مُعَظَّمة.
إنَّ أوَّل مَن درس بناء المفاهيم الدينية في القرآن، هو الياباني توشيهيكو إيزوتسو، في كتابه "الله والإنسان في القرآن". وقد ركّز فيه على الجوانب النظرية الواردة في القرآن، كمفاهيم: الألوهية واليوم الآخر، والجنة والنار، والوحي وكلام الله، والحلم والدعاء. بَيْد أنه لم يتطرَّق –إلَّا يسيرًا– إلى العبادات العملية، والأحكام الاجتماعية.
الذي أراه، أن الإسلام لم يكن لديه موقف سلبي من أديان الناس وعباداتهم، والأحكام التي تُسيِّر مجتمعاتهم؛ وإنما كانت المشكلة –بحسب القرآن– تَعُود إلى النظام الوثنيِّ القائم حينذاك، الذي كان يشتِّت على أذهان الناس التوجُّهَ بالعبادة إلى الله وحده. ثم إنه تَلبّس بكثير من التصورات التي أبعدَته عن الأخلاق الفاضلة. فجاء القرآن –على إثر النظام الوثني– بنظامٍ جديد قائمٍ على توحيد الله، وعلى العلم والدعوة إليه، ونبذ الجهل والظن، والتحاكم بالعدل، بدلًا من الأحكام القبَليّة التي كانت مَشُوبة بالظلم والطغيان.
لقد كان الناس يؤمنون بالله. إلّا أنهم يُشركون به، وَفْق نظامهم الديني. فأعاد القرآن تعريف مفهوم الإيمان بالله، بأن الله وحده خالق هذا الكون والمهيمِن عليه، وأن البشر لا سلطان لهم على بعضهم بعضًا، إلّا في حدود التعاون المشروع بينهم، والذي يحترم كرامة الإنسان، وأنَّه إلى الله وحده يتوجَّه الإنسان بالعبادة.
هذا ينطبق على الأحكام، فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية والمالية والجزائية، ونحوها. وهي جوانب متغيّرة اجتماعيًّا، يَلزم النظر فيها وإعادة بنائها مفهوميًّا، وَفْق التحوُّلات البشرية، ووَفْق ثوابت الإيمان والأخلاق والنفس الإنسانية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.