العمارة السكنية التي أقطن فيها تسير من سيئ إلى أسوأ. قبل سنوات طويلة، كان "اتحاد السكان" له مجلس إدارة منتخب. قرارات الاتحاد كانت سيفًا على رقاب الجميع، بمن في ذلك المعترض والمتأفف والكاره والمتململ والمتريِّب، وكذلك من لو كان الأمر بيده لأغلق بابه عليه، وترك العمارة تضرب تقلب.
وكان للعمارة حارس نشيط، تتلخص مهمته في نظافة العمارة وتأمين السكان، وضبط وربط عمليتَي الدخول والخروج. كان درَج العمارة أقرب ما يكون إلى الألماس المتلألِئ، وجدرانها تقارب الرخام المصقول، ومصاعدها تناطح غرف فنادق الخمسة نجوم. وفي خضم أعمال النظافة ومهام الرعاية، كان حارسًا هُمامًا. يسأل الغريب عن وجهته، ويتحقَّق أن السكان في أمان واطمئنان. ولكي تستقيم أحوال العمارة وتتيسر تفاصيل الحياة فيها، فقد دشن الاتحاد صندوقًا ماليًّا يسدد كل ساكن نصيبًا منه، ويخصص للإنفاق على شؤون الصيانة.
الشقق السكنية كانت تحوي عائلات مسلمة، وأخرى مسيحية، وذلك بحسب بطاقات الهوية الشخصية. بعض العائلات المسلمة كانت تلتزم مظهرًا يدل على التزام ديني شديد. بعضها الآخر كان متوسط الالتزام. وفريق ثالث لم تبدُ عليه علامات تشدد أو مظاهر تكلف. وكذلك الحال بالنسبة إلى العائلات المسيحية. كان بعضها يُشاهَد ذاهبًا إلى قداس صباح الأحد، أو عائدًا من صلاة مساء السبت. بعضها الآخر لم يُعرف عنه الذهاب إلى الكنيسة إلا في أعياد رأس السنة الميلادية، والميلاد، والقيامة. وهناك من لم يترك أثرًا لمشوار إلى كنيسة هنا، أو لرحلة قام بها إلى دير هناك.
وبين هنا وهناك، وهذه العائلات بدرجاتها، وتلك بفئاتها، سادت علاقة صحية إيجابية طيبة بين الغالبية المطلقة. صحيح أن عائلات كانت أقرب لبعضها بعضًا من غيرها، وسيدات يصادقن ويقاربن ويلاحمن من بعضهن دون غيرهن، ورجال نشأت بينهم أخوَّة بعد الجيرة وبناء على كيمياء متناغمة، لكن العلاقة التي وحَّدت بين الجميع، وجمعت شمل سكان الطابق الأول مع شاغلي الرابع، والمهيمنين على السادس، كانت علاقة المصلحة العامة الواحدة: مصلحة خير العمارة وراحة سكانها.
هذه المصلحة لم تقحم نفسها يومًا في معتقد هذا، أو ديانة هذه، أو ملابس هؤلاء، وإن كانت مطابقة لشريعة أولئك، أو طقوس تديُّن أولئك، وإن كان منصوصًا عليها في كتاب هؤلاء المقدس. ربما كان يدور حديث في شأن كهذا، أو مسألة كتلك، بعد غلق الباب على أهل البيت. وربما كان يبدي أحدهم أمنية لو أن أستاذ جرجس كان مسلمًا لزوَّج ابنته فاطمة من ابنه ريمون. وربما كان أحدهم يشعر في قرارة نفسه لو أن جاره في الشقة الملاصقة كان على دِينه، أو أن جارته كانت أكثر التزامًا، أو تحررًا، لأسباب احتفظ بها لنفسه.
لكن ما كان يدور في نفوس السكان ظل أمرًا مغلقًا على أصحابه، فلا شأن لـ"اتحاد السكان" به، ولا أثر لقرارات إصلاح المصعد المتعطل فيه، ولا علاقة لمخصصات صندوق العمارة به، ولا دخل لحارس العمارة ومهامه فيه. ولسوء الحظ لم تبق العمارة على حالها، ولم يظل "اتحاد السكان" على شأنه، أو حارس العمارة على مهامه.
تدريجيًّا لكن بسرعة، وبهدوء زاعق، واتفاق غير معلن، بدأ السكان المسلمون ينتخبون أعضاء "اتحاد السكان" المسلمين. كذلك فعل السكان المسيحيون. بعدها لم يعد رئيس مجلس الإدارة هو الأقدر على شؤون الإدارة، بل أصبح الأظهر تديُّنًا. فإما هو الأطول لحية والأكثر ترددًا إلى المسجد، أو هو الذي يتبوأ مكانة في خدمة الكنيسة، أو دعماً للدير. حتى هوية حارس العمارة الدينية، باتت تحددها ديانة الأغلبية المسيطرة على "اتحاد السكان". فلم يعد اختيار الحارس يجري بناء على الأنشط والأصدق والأخلص.
سنوات مضت في ظل تديين أعضاء مجلس إدارة اتحاد سكان العمارة، وترجيح كفة القبلية العقائدية على المصلحة العقارية، وتعيين حارس لشؤون التنظيف والتلميع يدين بالولاء لمعتقَد أعضاء الاتحاد، ولا مانع أبدًا من أن يباشر مهمةَ رجل الدين، فيؤذن للصلاة، أو ينظم رحلة إلى الدير. وكانت النتيجة أن تحولت العمارة إلى خرابة، و"اتحاد السكان" إلى اتحاد للسكان المسلمين في مواجهة المسيحيين، أو العكس.
ويبدو أن سيناريو مشابهًا جرى لمجلس إدارة اتحاد سكان المنطقة العربية. لم تعد حياة السكان وحال عمارتهم أولوية، بل صارت الأولوية لمعتقدهم، وطائفتهم، وخانة الديانة في بطاقات هوياتهم.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.