ألقيتُ الأسبوع الماضي بمدينة وجْدة الحدودية بالمغرب، كلمةً في إطار حلقة نقاش حول إشكالية التعايش الديني، بين المواطنين المغاربة والمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، المقيمين في المغرب أو العابرين له. أكَّد العديد من المشاركين أن مسألة التعايش أصبحت تَطرح صعوبات عدة، ليس فقط بالنسبة إلى المهاجرين المسيحيين، بل حتى بالنسبة إلى المهاجرين المسلمين. لكنَّ ما أثار انتباه كلِّ الحضور، هو شهادة مُهاجر مسيحي غِينيّ حول أوَّل يوم له في المدينة، حيث إن أوّل سؤال طرحه عليه سائق السيارة، الذي أقلَّه من محطة الوصول، هو: "هل أنت مسلم أم مسيحي؟". قال إنه أحس بحرج كبير، ولمَّا أخبره بأنه مسيحي، أبدَى السائق خيبة أمل مَشوبة بالامتعاض.
مُهاجرون آخرون كثيرون التقيتُ بهم خلال لقاءات حواريّة، قالوا إنّ أوّل تَعارُف لهم مع المغاربة، كان مَوضوعه هو الهُويّة الدينية. قد لا يكون هذا السلوك بالضرورة تمييزيًّا، ولا شائنًا، لكنه كان مؤلمًا بالنسبة إلى هؤلاء المهاجرين. لكن، في العُمق، يَطرح هذا السلوكُ إشكاليَّةَ فهْم علاقة الدين بالإنسانية، وسؤالًا حول هل الأسبقية هي للانتماء الديني أم الإنساني، وأيضًا معرفة أَكانَ إيمانُنا يجعلنا نعي أوّلًا الوجود الإنساني في هشاشته واغترابه، قبل الوعي بالانتماء الديني. بمعنى آخر، إن شهادة المُهاجر الغِيني، تُحِيلنا على دور الدين في تجربة اللقاء بين البشر في كلِّ رمزيَّتها: هل ألتقي بإنسانٍ مسيحيٍّ، أم بمسيحيٍّ إنسان؟
تؤكِّد الكثير من الدراسات حول الهُويّة والثقافة، أن طريقة فهمنا لديننا تُحدِّد في العمق نمَطَ العلاقات الإنسانية، التي نَنسجها مع أولئك الذين لا يشاركوننا في عقائدنا، وإمكانيّةَ بناء تجربة عيش مشترك وتُعاطُف حقيقي. لذا، فإني أعتقد أن القيمة الحقيقية للدين، هي قدرته على أن يجسِّد حبَّ الإنسانيةِ كلِّها، بغضِّ النظر عن الانتماءات الدينية، إذ كلَّما ابتعد الدين عن الإنسان، ابتَعد أيضًا عن الله. وأمَلِي كبير أن يأتي يوم يصبح فيه الشكل الوحيد المقبول لفهمنا للألوهة، هو الألوهة الحاضنة لكلِّ البشر، والمتعالية على كلِّ اختلافاتهم.
من الضروري إذن، أن نعمِّق مبدأَنا حول الاعتقاد القويم أو العقيدة الصحيحة، من خلال مبدأ السلوك الإنساني القويم، كي نتفادَى الانفصام القاتل بين طرق ممارستنا الدين والإنسان في مجتمعاتنا، وكي يصبح التراحم والمحبة، من طبيعة الدين الحقيقي، التي فطر اللهُ الناسَ عليها. لذا، فأنا أفهم الإسلام كترابط بين مَقولتَي الحقِّ والخَلق، ما دام الخَلق كلُّهم -حسَب رسول الإسلام- هُم عيال الله.
في حين كنتُ أتفحَّص وجه المهاجر الغِينيّ، وهو يتحدث بتجربته في المغرب، استرجعتُ كلَّ كلمات الفيلسوف "إ. ليفيناس" عن الآخر الغريب، الذي يدعوني حتى أَخرج من "سكينتي وأنانيَّتي". لكن، ما يُزعزع الذات أكثرَ في لقائها مع هذا الغريب أو المهاجر، هو "وجه" هذا الغريب. وجهٌ يعبِّر عما يسمِّيه الفيلسوف "الجوهر والتفرد البشري"، لشخص لا يمكن أن يُخفي حزنه أو بؤسه، بعد أن هجر أهلَه ووطنَه. لذا، فاللقاء مع المهاجر، يَخلق لديَّ الوعي بمسؤوليتي الأخلاقية تجاهه.
أقول: لا تسألوهم عن عقائدهم وأفكارهم، بل انظروا إلى وجوههم، حيث المَعْبر نحو ساحل من الأُلفة والرَّونق الروحي. وكما أن الله خلَق الإنسان على صورته -بحسب قول المتصوِّفة-، فالوجه مَدخل إلى كلِّ تلك القداسة الهادئة، التي تَكمن في الذوات البشرية. لكن، في أحيان كثيرة يحُول فهمنا لعقائدِنا الدينية، بيننا وبين كلِّ الوجوه الحُبْلى بالجَمال والعُمق، فنَصنع أديانًا مَعطُوبَة ومنزوعة الإنسانية، أديانًا تتحول إلى طائفية، تقُوم بترحيل الآخر من حقلها الروحي والأخلاقي.
لم يعُد المغرب فقط أرض عبورٍ، بل أرض استقرار للآلاف من المهاجرين. فأصبح الآخر أو الغريب جزءًا من المشهد اليومي؛ ما يضع نموذجنا الأخلاقي وقدرتنا على قبول الآخر على المِحكِّ، خصوصًا بعد تنامي إشارات التمييز العنصري وكُره الأجنبيّ، تجاه المهاجرين من جنوب الصحراء.
لا شك أننا في حاجة إلى سياسات جديدة، لتدبير الاختلاف الثقافي والديني في سياق الهجرة، وللانتقال من منطق التجاور إلى منطق الحوار والالتقاء، كي نَخلق وعيًا دينيًّا جديدًا، دونما أن ننسى أن هشاشة المُهاجر الغريب، هي أيضًا هشاشتنا. فكما أنّهم غرباء بيننا، فنحن أيضًا كنَّا ولا نزال غرباء، في مناطق كثيرة في العالم. لذا، لننظر بطِيبة إلى وجوههم، ولنفتح لهم قلوبنا، لأن الإنسان الحقَّ والمتنوِّر -كما يقول مولانا جلال الدين الرُّومي- هو " بَيْت ضيافة". والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.