مع كلِّ يوم جديد، تَشهد الساحة التويترية حالةً من الشدِّ والمدِّ المتواصِلَين. تلك الحالة النابعة من صرخات لوحة المفاتيح، القادرة على تأكيد صفة أشخاص حقوقيِّين. منهم مَن يهتمُّون بحقوق الإنسان، وغيرهم بحقوق الحيوان، من وراء شاشة، لِنَجِدَ في مُحيط كلِّ قضية اجتماعية سلوكَ استياءٍ جماعيًّا يتصدَّر المشهد، وكأنَّ العالم يَسكنه أكبر نسبة من أخيار البشر!
ذلك النوع من الاستياء الحازم، لم يمرّ بالنسبة إليَّ مرور الكرام، بل ظلّ يَبعث في نفسي عددًا لا يُحصى من التساؤلات حول حقيقة الآخَر، في تدفُّق هذا الكمِّ من العاطفة من خلف شاشة! فما يَحدث من حملات و"هشتاغات"، تُواسي حالة الإنسانية المنحدرة في شتَّى بقاع العالم العربي. وتلك الصرخات الشرسة في وجه ظلم التعنيف، والتحرُّش، والتنمُّر، وازدراء الأديان، تَرسم تصوُّرَ أن جيوش الإنسانية في تويتر، تَكفي للوقوف في صفوف المقاومة العالمية أمام الجيوش النازيّة آنذاك!
فهل نمتلك بالفعل -نحن البشر- هذا الكمَّ من التعاطف والمروءة تجاه مأساة الآخَر؟ أم هل أصبحَت عادة تقمُّص شخصية المُناصر للقضايا الإنسانية، عاملًا مهمًّا للشعور بالرضى عن الذات، ولكسب عدد من المتابعين وتفاعُل الآخَرين معه؟ والسؤال الأهمُّ الذي أوجِّهُه إلى نفسي: "هل أكُون بذات الاهتمام والتعاطف تجاه موقف واقعي، مُشابه لِما يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي، أم أكُون أقرب للبلادة والمشي "جنب الحيط" بحسب النصيحة السائدة؟".
كم من المواقف الإنسانية، التي أثارت فضولي في معرفة تفاصيل أحداثها! فهل هذان (المتابعة والاهتمام)، نابعان من صميم إنسانيَّتي، أم هي مَوجة مُعْدِيَة من اتِّفاق الكثيرين الضمني على التعاطف في ذات القضايا؟! أَجزِم أنني لن أَصِل إلى الحقيقة القاطعة في تصوُّر حياة البشر خلف الشاشات، لأنني أعيش بإيمان كامل، بأن الخير والشرَّ لا يَظهرانِ بصورة كاملة، بل يَظهران بشكل نسبي في مختلف مواقف الحياة. فمِن الظلم أن أرى جميع المناصرين للقضايا الإنسانية هُم أبناء اللحظة وحسب. فالطبيعة البشرية بشكل عامّ تقُوم على التناقض، والجوهر وحده ما يُثبت نوايا الآخرين في إظهار اهتماماتهم.
أثناء هذا العراك الفكري مع النفس، تذكَّرتُ حالة شابَّةٍ أعرفها، كان لدَيها مئات الألوف من المتابعين على صفحتها في تويتر، بفضل امتلاكها لشخصيَّتَين لا تمُتُّ إحداهما إلى الأخرى بِصِلة. لها شخصية اجتماعية من الطِّراز الأوّل على صفحتها الإلكترونية، تتفاعل بها مع قضايا تعنيف المرأة، والرِّفق بالحيوان، بِروح تُشبه فيها أعتى المناضلات. ولها شخصية أخرى، تعيش فيها الحياة بصورة تقليدية سطحيّة، لا يُحرِّك فيها ساكنًا صرَخاتُ امرأة معنَّفة تَسكن في الجوار، ولا تُكلِّف نفسَها عناء المشاركة في حملات حماية حقوق الإنسان، بل إنها تعيش في برجها العاجي، تُتابع بدقَّة أحداث الأخبار المحلِّيّة وتفاصيلها بشكل خاصّ، وتَقرأ الروايات الخياليّة هروبًا من الواقع!
هذا النموذج يُعدُّ أحد الأسباب لفتح باب التساؤلات، عن حقيقة تلك الشخصيات المشهورة باهتمامها الفعّال والمستمرّ بجميع القضايا الإنسانية. فلو حدث اجتماع عالمي على أرض الواقع، يضمُّ أصحاب تلك الحسابات، الذين نذروا حروفهم الـ280 لمساندة القضايا الاجتماعية الشائكة، لوجَدْنا أن الإنسانية في لحظات الحقيقة الحاسمة ستَظهر بشكلها الكامل. لكنني شخصيًّا لا أطمح إلى كشف الأقنعة.
ما يحدث في تويتر من شهامة إنسانية -وإنْ كانت زائفة-، تُحقِّق جزءًا من حلم الضعفاء من البشر، بوجود مكان تجتمع فيه أرواح، تَستخدم سلوك أضعف الإيمان لدحر الظلم عنها. فشُكرًا للعمِّ "جاك دورسي" مؤسِّس مشروعه التجاري، الذي أصبح أخيرًا مدينةً فاضلة، ومنبرًا شِبه حُرّ، أنقذ الكثير بفضل تلك الجيوش المتعاطفة. فكثيرًا ما انطلقَت مبادرات من ساحة تويتر إلى أرض الواقع، لتتحوَّل تأثيرًا إيجابيًّا ملموسًا، في حياة مَن يستحقُّ التعاطف والدعم من مخلوقات الله.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.