ألقيتُ الأسبوع الماضي محاضرة حول إصلاح الحقل الديني بالمغرب، وحول إشكالية الاعتراف بالأقليات الدينية، والحقِّ في ممارسة الحقوق الدينية. أبانت تفاعلاتُ الحضور توجُّهَين واضِحَين: توَجُّهًا إسلاميًّا وتوَجُّهًا حَداثيًّا، ومقارَبتَين متباعدتَين للحريات الدينية. بالنسبة إليّ، كشفَت لي هذه الخطابات عن اختلاف يجري تمثيله كقطيعة جذرية، بين مَن "يدافعون عن الدين والشريعة"، ومَن "يسعون لنشر قيم الحداثة والديمقراطية". قد يبدو أننا نعيش مأزقًا حضاريًّا، ولسان حالنا يقول: "ماذا نختار: الدين أم الحداثة؟". لكني أعتقد أن الإشكال يتعلق بحضور أخلاق الاعتراف والتواصل الحضاري في مجتمعاتنا.
لا شك أن العنف يبدأ عندما ينتهي الحوار والتواصل. لذا، يمكن فهم الأصوليات الدينية أو غير الدينية، أي المنظومات الدينية أو الفكرية التي تزعم احتكار الحقيقة، على أنها من أعراض مجتمع تَغِيب عنه ثقافة التواصل، وتتحوَّل فيه المعتقدات إلى جُزر منعزلة بعضها عن بعض. لهذا السبب، يمكن فهم الصراع بين مختلف المجموعات البشرية، على أنه في الحقيقة صراع هويات تبحث عن الاعتراف. لذا، فإن الاعتراف يمثِّل اليوم شرط استقرار المجتمعات وحيويتها.
في الكثير من الدول الإسلامية، لم يَدخل الإسلاميون والحداثيون في عملية تواصل فكري حقيقي حول تجديد المفاهيم الكبرى، ولا يزال كُلٌّ حبيسَ مقولاته، كما تصنع الخطابات القطائع والحدود الذهنية الزائفة. يجري تقديم العلمانية في المنابر الفكرية وخُطَب الجمعة، كَفِكر دخيل على مجتمعاتنا، فِكر يتناقض جوهريًّا مع مبادئ الإسلام، بل إن بعض كتب "فقه التكفير" أفردت جزءًا خاصًّا بـ "كُفر العلمانيين". وأيضًا يجري وصف التيار الحَداثيّ بأنه جزء من مؤامرة، يحيك خيوطها الغرب "الكافر" لإزاحة الدين من حياة المسلمين. من جهة أخرى، يجري تقديم الإسلاميين كمعتنقي عقيدة إرهابية، وكرُعاة مشروع هيمنة شاملة على المجتمع؛ من أجل اغتيال الحريات، والزحف من أجل إقامة الخلافة الموعودة.
في كلتا الحالتين، تتأسس الأصوليات على رسم حدود وهميَّة بين "عقيدتِي" و"عقيدة الآخر"، وعلى الانغلاق على الذات أو على الجماعة؛ ما يؤدي إلى تَشْيِيء الآخر ونشأة "مجتمع الاحتقار"، حسب قول أكسيل هونيث. في سياق أوسع، يبدو وكأن مجتمعاتنا تعيش توتُّرًا بين فكرة الدين وفكرة المواطنة الديمقراطية، التي هي أشمل من كل انتماء ديني. غير أنه يمكن بناء ثقافة الاعتراف، على مبدأ أنه لا يوجد تناقض جوهري ونهائي بين الفكرتين؛ ما يسمح بنقد فكرة أساسية في نظرية صِدام الحضارات، وهي أن الإسلام لا يمكن أن يتعايش مع فكرة الديمقراطية، لأنه دين يعتمد على الشريعة كنظام شمولي. لذا، يجري الحديث يومًا بعد يوم، بتحوُّلات واجتهادات فكرية في اتجاه إسلام ديمقراطي، من خلال مُواءَمة بين حق الأشخاص في قناعاتهم، وممارساتهم الدينية مع المواطنة كحقوق وواجبات.
إن مجتمعاتنا في أمسِّ الحاجة اليوم، إلى نموذج فكر راشد وهوية جامعة، لأن كل الجماعات محكوم عليها بالتعايش، بعد أن أصبحت فكرة الشمولية متجاوزة تاريخيًّا. لذا، فإنَّ ثمَّة نمطًا جديدًا من التفكير أصبح ضرورة حضارية، ألا وهو التفكير المشترك أو التفاكر. يمكن الاعتماد على المشترَك الأخلاقي غير المعلَن عنه، ألا وهو قيمة الإنسان كقيمة في حد ذاته، من أجل دخول المساحات المشتركة والمتداخلة. يقترح العلمانيون نموذجًا تنظيميًّا من العلاقة بين الدين والسياسة والفضاء العام، وذلك من أجل السلم الاجتماعي. ثم إنّ الإسلاميِّين يقترحون نظامًا اجتماعيًّا، يحرص على استمرارية قيم التضامن والخير، في سياق يَعرف تنامي النزعة المادية واللامبالاة. يلتقي الطرفان إذًا حول فكرة مجتمع الخيرية؛ ما يمكن أن يشكِّل إمكانية لإنشاء فكر تَواصُلي أو عبوري بين العقيدتَين. ومع اختلافاتنا، فإننا نتشابه كثيرًا في البحث عن الخيرية، لكن الخيرية الحقَّة هي رؤية الخير في مقاصد الآخَر.
في ثقافة منطقة (التُّبَّت) قصة رمزية جِدُّ معبرة: "كنتُ جالسًا وحدي فتراءى لي من بعيد شيء يقترب، خِلْتُه حيوانًا. فلما اقترب تبيَّن لي أنه إنسان، ولما اقترب أكثر، كم كانت مفاجأتي كبيرة، إنه أخي!". أنا أقول: إن أخلاق التواصل هي الطريق إلى ثقافة الاعتراف، من أجل بناء مجتمعاتنا التي لا تزال تبحث عن هويتها وكرامتها، وإن الشرَّ كله هو أن يحوِّل كلٌّ منا عقيدته النسبية، إلى مطلق لا يأتيه الباطل أبدًا، فنصبح مجرد أحزاب: {كُلُّ حِزْبٍ بما لَدَيْهِم فَرِحُون}!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.