اِعتقَد بعضهم في فترة سابقة -ربَّما بشيء من التَّبسيط- أنَّ تطوُّر وسائل التَّواصل وانتشار الإنترنت، سيساعدانِ على وصول المتابعين/ات إلى أرض الواقع عبْر أخبار وتغطيات مباشرة وواقعيَّة؛ ما سيجعل حقيقة ما يَحدث من وقائع في متناول الجميع. ويبدو أنَّ هذا الاعتقاد قد سقط في تجارب كثيرة، منها الغزو الأميركيُّ للعراق سنة 2003، والكثير من الأحداث التي تلَتْهُ، وُصولًا إلى الثَّورة السُّوريَّة وما استتْبعها.
في الوقت نفسه، سيطرَت وسائل إعلاميَّة كبيرة -بل وعملاقة أحيانًا، وبالأخصِّ محطَّات تلفزيونيَّة- على اهتمام المشاهدين/ات والسُّوق الإعلاميِّ إن صحَّ التَّعبير، تاركةً حيِّزًا ضيِّقًا يبدو محدود التَّأثير للوسائل الإعلاميَّة الأخرى، سواءٌ أمكتوبةً كانت أمْ مسموعة، أمْ مرئيَّة ولكن بتمويل محدود يؤثِّر في انتشارها. ولاحقًا في السَّنوات الأخيرة، تَعمَّق تَراجُع وسائل إعلاميَّة مكتوبة عريقة في العالم العربيِّ، لأسباب عديدة، منها التَّراجع الشَّديد للتَّمويل الَّذي كان يَرفد هذه المؤسَّسات، سياسيًّا كان التَّمويل أو دينيًّا أو ربَّما أجنبيًّا.
مع تيقُّن فئات من الصَّحفيِّين/ات، من عدم قدرتهم على إطلاق وسيلة إعلاميَّة تقليديَّة مرئيَّة أو مقروءة، متحرِّرةٍ من التَّمويل السِّياسيِّ أو الدِّينيِّ الَّذي يتحكَّم في خطِّ تحريرها، ويَفرض عليها رَقابةً من نوع ما، وذلك بسبب ضخامة التَّمويل المُوجِب لإطلاق وسيلة إعلاميَّة مماثلة؛ فقد رأَوا في مَواقع الإنترنت ضالَّتهم المحدودة التَّكاليف نسبيًّا، لإطلاق وسيلة إعلاميَّة بديلة محترِفة ورصينة، متحرِّرة من أعباء التَّمويل وقُيوده، لتكُون صَوتًا للحقيقة ومِنبرًا للحقِّ.
لا تَخلو هذه الرُّؤية من وجهة نظر مُحقَّة؛ إذ يعرف على نطاق واسع مثلًا أنَّ هذه المحطَّة التِّلفزيونيَّة مموَّلة غالبًا من قِبل ذلك الحزب، أو أنَّ هذه الجريدة تتلقَّى رواتب صحفيِّيها من تلك الدَّولة... إلخ. ومِن ثمَّ، فإنَّ مَضمون ما تَبثُّه وتُحاول إيصاله إلى عقل المُتابِع وقلبِه، هو أجندات هذا الحزب وهذه الدولة.
أعادت الانتفاضات والثَّورات المندلِعة في لبنان والعراق مثلًا، اهتمام فئات كبيرة من الجمهور بأخبار الثَّورات. فثارت بطبيعة الحال مخاوف كثيرة لدى الجمهور المَعنيِّ بها سلبًا أو إيجابًا، والّذي انطلق يبحث عن أخبار الثَّورة وأعمالها، وما لَها وما عليها، ليَصطدم بكمٍّ هائل من الأخبار والرِّوايات المتناقضة. فالأخبار الكاذبة الملفَّقة "Fake News"، تكاد تكُون أكثر من تلك الصَّحيحة الموثَّقة، وهو أمْرٌ مفهوم بعض الشَّيء. فالصِّراع السَّائد بين الثَّائرين والأنظمة السِّياسيَّة، انعكس حربًا من خلال وسائل الإعلام، واستهدف شيطنة الآخر وتشويه صورته، وتأليب الرَّأي العامِّ عليه.
لعبَت الوسائل الإعلاميَّة البديلة -وعلى رأسها مَواقع إلكترونيَّة حديثةٌ نسبيًّا- دورًا مُهمًّا، يعبِّر عن جَوهر العمل الصّحفيِّ ورسالته؛ إذ نَقلَت الصُّورةَ الحقيقيَّة في أغلب الحالات، وتحلَّت بالمَوضوعيَّة مع الْتِزامها جانب الثَّائرين/ات. فأوردَت ما لَهم وما عليهم، ولم تُهمل دحض الشَّائعات وتفكيك الأخبار الزَّائفة، ولو لم تُلغِ تأثيرها بالكامل. وقد تكُون بعض هذه الوسائل الإعلاميَّة وقعَت في هفوات أو أخطاء، لكنَّها –برأيي- لا تبدو أخطاءً من نوع التَّرويج لأجندة غير وطنيَّة، أو بثِّ أخبارٍ مَشكوكٍ في مِصداقيَّتها، بقدر ما هي أخطاءٌ يُمْكن لأيِّ صحفيٍّ أن يقع فيها، لا سيّما في زمن التَّغطيات السَّاخنة.
تَظهر أهمِّيَّة الإعلام البديل هنا، في تَفوُّقه على الإعلام الحكومي، وعلى ذاك المُوجَّه من خلال التَّمويل، لجهة تَحرُّره من قيود السِّياسة والدِّين والطَّائفة، وقدرتِه على رفع سقف الحرِّيَّات الإعلاميَّة، وتَناوُلِه ما كان يُعتَبر من المَمنوعات، وتقديمه الواجبَ الإعلاميَّ الصّحفيَّ على أيِّ اعتبارٍ ضيِّق، لعدم ارتهانه بجهة مموِّلة ذات أجندة خاصَّة.
رَغْم الجهد الدَّؤوب للمواقع البديلة، يبدو -كانطباعٍ عامٍّ لا يخلو من منطق- أنَّ الشَّاشات التِّلفزيونيَّة السِّياسيَّة والطَّائفيَّة، ما زالت هي المسيطِرة على السَّواد الأعظم من الجمهور المُتابِع. فما إنْ يَعُود النّاس إلى منازلهم، حتّى يتسمَّروا أمام شاشات تلفزيوناتهم. فتَسقُط أخبار الثَّورة والصِّدامات وقطْعِ الطُّرقات، ويكاد جمهور المَواقع البديلة مَحصورًا في فئة من الشَّباب والشّابّات والنَّاشطين/ات والمثقَّفين/ات، الَّذين يمتلك معظمهم أصلًا مَهاراتِ تفكيك الأخبار الزَّائفة و"فَلْتَرَتِها". وهو ما يُعِيد تجربة الإعلام البديل إلى مُربَّع أوَّل، ويَطرح مرَّة أخرى معادلة الحاجة إلى التَّمويل الضَّخم للوصول إلى جمهور واسع، لـ"إنقاذه" من براثن الإعلام المُوجَّه والكاذب.
أيضًا طَرحَت الثَّورة أسئلة كثيرة على الأنظمة الحاكمة والسِّياسيِّين والشُّعوب، وها هي تَطرح أيضًا سؤالًا مُتجدِّدًا حول الإعلام، وقُدرات الإعلام البديل الَّتي بدَت محدودة أحيانًا، على الرَّغم من تَعاظُم دَوره الرِّساليِّ. فهل تُفْضي الثَّورات والنِّقاشات الَّتي تُثيرها إلى فتْحٍ ما جديد، يُعِيد الإعلامَ -ولو جزئيًّا- إلى حيث يجب أن يكُون في خدمة الحقيقة؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.