البيت، ذلك المكان الذي يَجدر بأنْ يكون مساحةَ سَكينةٍ لِفِرارنا، وطَوقَ نجاتنا، وصِمَام أمانِنا، قد يتحول إلى جحيم بالنسبة إلى الكثيرين/ات، ولا سيَّما النساء المُعنَّفات.
جُدران البيت تُحكِم قبضتَها على الروح. فيصبح التَّحليق خارِجَها حُلمًا يُراود كلَّ مُعنَّفة، لحظةَ يَسدِل اللَّيلُ سِتاره. صَوت المُعنِّف وهو يُطبق باب البيت بعنف، يتحول إلى صَفَّارة إنذار تَدقُّ بقوَّة في ذهن ضحيَّته. هي العالقة في وَحْل العنف المسلَّط عليها، وهي الخائفة من البَوح. واليوم، هي عالقة أكثر من أيِّ وقت مضى بسبب الحَجْر المنزلي، مِن جَرَّاء تفشِّي فيروس كورونا، الذي حوّل بيوت المعنَّفات إلى مَعاقل تعذيب.
في بلدي تونس -حيث فُرض الحَجْر الصِّحِّيّ العامّ للتصدِّي للوباء-، كشفَت وزارة المرأة عن تضاعُف حالات العنف ضد النساء خمسة أضعاف، بسبب الحَجْر. الضحية سجينة البيت، والجاني مع ضحيته ومع أطفاله على مَدار اليوم، وجميعهم يتحوَّلون إلى "مُتَنفَّس" بالنسبة إليه، لتفريغ شُحنات غضبه، وهو حبيس البيت يجترّ قلقَهُ المَرَضِيّ.
هذا الوضع ليس خاصًّا بتونس، إذ تشير الأرقام إلى انفجار حقيقيٍّ في معدَّلات العنف المنزلي، في الحَجْر الصِّحِّيّ العامّ حول العالم. وقد حذَّر الأمين العامُّ للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش"، في كلمة له يوم 6 نيسان/أبريل الجاري، مِن ارتفاع معدَّلات العنف المنزلي بسبب الحَجْر الصحي، قائلًا: "شهِدْنا في الأسابيع الماضية مع تنامي الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والخوف، تصاعدًا عالميًّا مروِّعًا في العنف المنزلي". أيضًا حثَّ "غوتيريش" الحكومات على اعتبار مواجهة العنف ضد المرأة، جزءًا رئيسيًّا من الخطط الوطنية لمكافحة فيروس كورونا.
فِكرةُ الإفلات من العقاب، لِتَعطُّل الدوائر الحكومية في هذه الظروف -تمامًا كالمَحاكِم-، قد تكُون أحد العوامل الرئيسية، التي تَدفع برجل عنيف إلى المزيد من العنف أثناء الحَجْر الصحي. قبْل أيام -وأنا أُراقب منصَّات التواصل الاجتماعي- لاحظتُ تغريدات عديدة في تويتر، تُشجِّع بل تحرِّض على العنف ضد المرأة، وعلى استغلال الحَجْر الصحي، وعلى غلق المحاكم لتطليق الزوجة أو ضربها أو حتى اغتصابها. نعم، بكل سلاسة تَمرُّ أشدُّ عبارات العنف والإهانة، متدثِّرةً برداء السُّخريَّة، مُستَقويةً بعلامات الإعجاب مِن قِبَل فئة من الجمهور، ترى في هذه العبارات "خفَّة دم" أو "نُكتة"، تَكسر رَتابة الوضع في ظلِّ الحَجْر المنزلي.
الحَجْر المنزليُّ، هو السبيل الوحيد المتوافِر حاليًّا إلى مواجهة تفشِّي الفيروس. وفي حين يَعني الحَجْرُ لفِئةٍ واسعة إفلاتًا من الموت، يعني لغيرهم استدعاءً للموت كلَّ يوم، وكمَّاشة تُطْبِق على الروح والجسد، حيث لا مَفرَّ من الجلَّاد، الذي قد يُعاني بِدَوره مَشاكلَ إضافيَّةً إلى جانب نَزْعته إلى العنف، وأوَّلُها نقص المال، وخسارة عمله -آلاف فُرَص العمل ضاعت في هذه المحنة-؛ ما يتولَّد عنه نزوعٌ إضافيٌّ إلى العنف ضد المرأة والأطفال.
المقارَبة التونسية في التصدِّي للعنف ضد المرأة والأطفال، في ظروف الحَجْر المنزليِّ، تستند إلى: سماع أصوات المعنَّفات عبْر رقم خاص، وتقديم الاستشارة النفسية، ثم تخصيص أماكن عزل لمن غادَرْنَ بيوتهنَّ هربًا من العنف. هذه الأماكن تَمكث فيها المرأة المعنَّفة 14 يومًا، إلى حين التحقُّق من سلامتها، ثم تُنقل إلى مركز إيواء بشكل دائم. ولكن، مع وجود إطار قانوني في تونس، يُجرِّم العنف ضد المرأة والعنف المنزلي (يشمل الأطفال)، فإنَّ الإمكانيَّات محدودة، والتحرُّك المَيداني الذي كان مُتاحًا للمتطوعين/ات قبْل الجائحة لمدِّ يد العون للمعنَّفات، أصبح نادرًا؛ ما يعني فُرَص نجاةٍ أقلَّ للضحايا.
قبل أسبوع، تُوفِّيَت طبيبة إيطالية (27 عامًا)، على إثر خنق صديقها الممرِّض لها حتى الموت، لشكِّه في إصابتها بفيروس كورونا، ثم ثَبَت بعد وفاتها أنها سليمة، وهو أيضًا. الطبيبة والممرِّض كِلاهُما كان في الخطوط الأمامية، في الحرب ضد الفيروس. وفي لحظة ما، تَحوَّل رفيق الدرب (مَلاك الرحمة) إلى قاتل بلا رحمة. هذه الظروف الضاغطة التي تعيشها البشرية، قد تُفْرز أفضلَ ما في السلوك الإنساني أو أسوَأَهُ. وسلوك العنف قد يجد في الحَجْر المنزلي، حاضِنة مناسبة تمامًا لتفريغ العَداء والعُدوانية، أو حتى لِاكتشافها.
الحَجْر المنزلي ليس جَنَّة مُتاحة للجميع، والعنف الزوجي المترتِّب عليه قد يَقتل أيضًا. أَكتُب هذه المقالة، وأنا أُفكِّر في رسالة من سيدة تعمل عن بعد في بيتها، التزامًا منها بالحَجْر المنزلي، تقول فيها: "العمل مَقدور عليه. لكن، ماذا عن العنف الذي علينا تَحمُّله في البيوت، في هذه الفترة التي لا نَعرف متى تنتهي؟".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.