كتبت مرة عن أهمية دراسة "حركة العنف"، وعدم الاكتفاء بدراسة "حركات العنف". ففي الأخيرة يجري التركيز على: أولًا: البنية التنظيمية، وثانيًا: من أين تفرَّع التنظيم؟ وثالثًا: ما موقعه الأيديولوجي في شبكة التنظيمات العنفية؟ بينما "حركة" العنف تعني: أين يتمركز العنف؟ ومَن المستهدف من العنف؟ وكيف ينتقل من مساحة جغرافية إلى أخرى؟ ولماذا؟ ومَن حلفاء العنف في المساحة الاجتماعية الجديدة؟ ومن خصومه؟ وكيف؟ وما قدرة الأجهزة المختلفة في كل موقع جغرافي على المواجهة؟ وما الدلالات الرمزية لحركة العنف، وتداعيات ذلك، وخطورته؟ وكيف المواجهة؟
في هذا السياق، يمكن القول إن العنف -تاريخيًا- في مصر، قد مرَّ بموجتين رئيستين متعاقبتين/متداخلتين، هما: أولًا: العنف الطرفي. وثانيًا: العنف في المراكز. واتسم العنف الطرفي بنوعين هما: الأول: عنف المساحات الجغرافية ما قبل الحديثة، أو المساحات المحصورة بين "النهر والجبل" (بحسب تعبير أحدهم). والثاني: العنف الحدودي. وتتسم هذه المناطق بإعلاء قيم الجماعات الأولية على حساب قيم الدولة الحديثة. ولعل من أهم القيم السائدة في هذا المقام: أوّليّة "العُرفي"، والتراضي الاجتماعي، على حساب القانون، وضمان وصول الحقوق إلى مستحقيها. كما تتسم هذه المجتمعات بالفقر الشديد نتيجة الغياب التام للتنمية الشاملة، ونقص الخدمات، وتردي النشاطات الثقافية، وانسداد المجال السياسي...
وبدلًا من النضال المشترك من أجل مواجهة الواقع "البائس"، بالتعاون مع الدولة، أو بالضغط عليها، في إطار رؤية تنموية شاملة، يبحث كل فرد عن حل لمشاكل الواقع، إما بالحل الفردي، أو بالعودة إلى الانتماءات الأولية. وعليه، تصبح الشعارات والرموز الدينية "إعلانًا عن الهوية". بهذا المعنى يصنف المجتمع على أساس ديني...وتفرض الأغلبية الدينية سلطتها، أو ما دأَبنا على أن نطلق عليه "سلطة الغلبة"، التي تحل تلقائيًا مكان أجهزة الدولة الحديثة، وتبدأ في الهيمنة على الأقليات الموجودة سواء جنسية كانت، أو دينية،...إلخ. وهو مناخ ييسر وجود تواريخ موازية، وعليه صراعات مجتمعية.
استمر العنف، ولم ينقطع في الأطراف، وتعددت أشكال العنف: القتل، والحرق، والتعرية، والتجريس، وفرض الأتاوَى، والدفع نحو التهجير القسري،...إلخ، في ظل منظومة "فتوى" غريبة عن الخبرة التاريخية المصرية، أسبغت عليها الشرعية؛ ما جعل المؤسسات والأجهزة تستسلم للواقع في صورته الأولية الدموية، فلا تتمكن/تُمكن أحدا من حقوقه، ولا تُلتقط رسالة رئيس الدولة الإيجابية غير المسبوقة بالاعتذار إلى سيدة الكرم، وغير ذلك.
مع مرور الوقت، انتقل العنف من الأطراف، إلى المراكز: المدن. وظني أنه تحوُّل مهم. فمن المفترض أن المدينة ليست مجرد مساحة يقيم بها الأفراد، بل المدينة تعبير عن الحداثة: النظام، القانون، الفاعليات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، الاستجابة المؤسسية. كذلك المدينة تجسيد لـ"التعددية" التي تعني الاختلاف وليس التماثل. وكذلك قدرة المدينة على استيعاب الاختلاف، وقبل كل ذلك المواطنة، حيث المواطن ينتمي إلى وطن لا جماعات أولية، ومن ثم مرجعية الدستور والقانون...ويقينًا، فإنَّ تحرك العنف من الأطراف إلى المدن، يهدف إلى وأدِ كل ما يميز المدن، وضمنًا أي حراك نحو العدالة، والحرية...فالانتقال من الأطراف إلى المراكز، إنما يعني الحرب الشاملة...
والثابت لديَّ حتى الآن، هو أن ردة فعل المصريين على الأحداث، تعكس كيف أن هناك تيارًا رئيسيًا لم يزل يصر على المقاومة والتماسك، يؤيد عملية حق الشهيد بالمطلق للحيلولة دون تمدد العنف. تيار رئيسي يدرك أن العنف الحادث -حتى وإن تخصص بفئة بعينها-، إلاَّ أنه في الواقع موجَّه إلى الوطن والدولة بمعناها الواسع...إلا أنه ومن جانب آخر، تبين لنا أن المدينة التي نعرفها "بعافية"؛ ما يحتم التعبئة الوطنية الشاملة، والتحديث، والتنمية، والتنشيط السياسي، وتفعيل المواطنة وفي القلب منها المساواة، ومواجهة الفتاوى الشاذة، وتطوير المنظومات الإعلامية والثقافية والفنية...لأن البديل، وحصره في الأمني فقط، يصب في ما يريده العنف الموجه إلى المراكز من إحداث: خوف، وعزلة، وترصد، ورغبة في ترك الوطن،...إلخ
المجد للشهداء...
ليحمِ الله مصر (مركزها، وأطرافها): بنا/معا...
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.