هل نعيش كذبة كبرى، يصدِّقها بعضنا ويؤمن بها بشدة، أعني بتلك الكذبة زَعْم العمل لتهيئة مستقبل أفضل للأجيال الصغيرة في المنطقة، لتبرير شنِّ كلِّ هذه الحروب وتحريك هذه الصراعات، لأن النتيجة المنشودة هي تحقيق "الأمن"، الذي سيمكِّن هذه الأجيال بعد ذلك أن تنعم باستقرار طويل الأمد، يتيح لها أن تتعلَّمَ وتُعيدَ بناء ما دمِّرَ في مجتمعاتها؟! أم هل هذه الرواية لوصف ما يجري لا يمكن الأخذ بها، لأن ما يجري يقضي على آمال المستقبل؟ فهو يطفئ العقول المشتعلة والجامحة، التي تتلهَّف على المعرفة، وشُغِلَت بطلب النجاة والأمن عن التفرُّغ للتعلم. ويَنتج من ذلك علوُّ لغة البندقية، فوق لغة المنطق والحوار والتنوير. ونحن نعرف أن هذه اللغة لا تعترف إلا بالدمار والخراب والعنف، وتعمل على إنتاجه في أكثر من جيل.
ذَكَر الروائي الكولومبي غابريل ماركيز في مذكّراته الشخصية، أنَّه سأل جَدَّه في صغره عن معنى كلمة "بحر"، ولكنَّ الجَدّ لم يعثر على صورة له في قاموسه المهترئ القديم، فحاول أن يشرح له من خلال عبارة تستحقّ التأمل، هي: "هناك كلماتٌ لا يحتويها القاموس لأنَّ الناس جميعًا يعرفون معناها". فهل أصبح "التعليم" كلمةً لا مكان لها في قاموس النخبة، حيث تزدحم فيه الكلمات التي -من وجهة نظرهم- لها معنى وذات أهمية، مثل: الأمن والاقتصاد والتسلح؟
لقد تَناسَوا جبهةً على قدر كبير من الأهمية، لو سقطت لأسقطت معها كلَّ الجبهات، وهي جبهة التعليم. هي أكثر الجبهات قوةً لو جرى الاهتمام بها، وأكثرها مردودًا لو حظيت بالمتابعة والتجويد، وهي الجبهة التي تُنتج لنا الإنسان الواعي المسلَّح بالمعرفة والتفكير السليم، الذي يدرك قيمة البناء والتعاون والتعاضد، ويَعرف كيف يحمي نفسه من الخداع والتضليل والاستغلال.
الظاهر أن جبهة التعليم تزداد هشاشةً وضعفًا في أكثر من بلد، ويزيد من تفاقمها تردِّي أوضاع المعلمين وبيئات التعلم. ولا شيء أكثر دلالة على تدنِّي مكانة المعلمين المادية والمعنوية، من تكريم أحد المعلمين في أحد البلاد العربية، بشهادة استثمار لا تتعدَّى دولارَين ونِصفًا، تُصْرف له بعد عشرين عامًا، أي في عام 2036. ولم يتوقَّف تدهْوُر التعليم عند ذلك، بل ظهرت الشهادات المزوَّرة. فمثلًا: قدَّمَت وزارة التعليم العالي الكويتية 40 بلاغًا عن مثل هذه الشهادات المزورة، خلال العام الجاري. وهناك تداعيات لهذه الظاهرة في أكثر من بلد خليجي وعربي؛ ما يعكس حالة التأزُّم التي تعيشها جبهة التعليم، التي يُعوَّل عليها في مقاومة كلِّ ما يجري من خراب بشع، طال مختلف جوانب الحياة.
إنَّنا نتطلَّعُ إلى شعلة مضيئة تنير الظلام الذي يخيِّم على التعليم، وتُنعش الآمال نحو مستقبل أفضل لهذه الأجيال، التي تتفرج اليوم على دروس صعبة جدًّا على الأرض، دروس تُكتب بالبنادق والآلات الحادة، مِدادها الدماء التي تسيل في كلِّ مكان. فكيف نستطيع أن نُنقذ هذه الأجيال بالتعليم، ونحافظ عليها من أن تتحول إلى أجيال لديها نزعة إلى العنف، الذي شاهَدَته ماثلًا أمامها؟ فهناك على سبيل المثال أكثر من مليوني طفل يمني خارج أسوار المدرسة، بِناءً على تقرير أصدرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) في هذا العام، فضلًا عن الطلبة السوريين الذين وصل عددهم إلى ما يقارب ثلاثة ملايين، حسب تصريحات المنظمة نفسها.
إذن، لا بدَّ من تحرُّك المؤسسات المعنِيّة بالتعليم وتطويره وإصلاحه، نحو التأثير في متَّخِذي القرار في المؤسسات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية، لإعطاء التعليم في الوطن العربي أهمية واهتمامًا أكبر. فهو يُعَدُّ الجبهة المضادة التي يمكن أن تُحرَّكَ ضد كلِّ النَّزَعات التدميرية التي تتحرك في المجتمع، وهي الجبهة التي يمكن أن تعلمِّ هذه الأجيال الصغيرة كيفية بناء أوطان مستقرة، يكون فيها الإنسان وحقوقه محورها، وتكون العدالة الاجتماعية عمودها، ويصبح الوطن هو حقًّا للجميع، لا حقًّا لبعضهم دون الآخر. وحينما تَقْوى هذه الجبهة، سوف تضعف الجبهات الأخرى مَهْما كانت قوتها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.