يمثل الظلم، والفقر، والجهل، والاحتلال، منطلقًا خصبًا للبحث عن عقيدة صراعية، تحقق القدر الأكبر من التناقض مع الخصوم، وتعطي للصراع معنى مطلقًا ومقدسًا، يتجاوز عالم الأسباب وسياقاته الموضوعية. إن تديين الصراعات، والاعتقاد بأن الاختلاف في الدين والمعتقد هو سبب الصراعات والحروب بين الأمم والشعوب، هو الصيغة المثلى لتقويض القيم الإنسانية للدين، وجعلِ الصراعات أكثر دموية وديمومة.
العودة إلى الدين نكاية، وانتقامًا، وبحثًا عن قوة تلهب حماس المظلومين، هي الصيغة المثلى التي يعمل السياسيون وأصحاب النفوذ على استغلالها وتوظيفها تجاه خصومهم، لتحقيق مصالحهم الخاصة. وتمثل الصهيونية الأنموذج الأبرز لاستغلال الدين كـ"درع أخلاقي"، لتبرر مشاريعها الاستعمارية في المنطقة العربية. وقد نجحت “الصهيونية” في تسويق خطاب يمتزج فيه العِرق بالدين، والقومية بالعقيدة والارض الموعودة بوعد (بلفور)، والشعب المختار بقانون العودة.
ويمثل "الحاخام أبراهام كوك" (ت 1935)، مثالًا واضحًا لمحاولة تأصيل الصراع الديني من منظور يهودي، ودمجه في المشروع الصهيوني. وتوضيحًا لذلك يكفي أن نقرأ قوله: "عندما تندلع الحرب، تُستجاش قوة المسيح". وهذا ما حدث في السياق الإسلامي عندما جرى تديين الصراع في فلسطين، وتحويله إلى صراع ديني اختلطت فيه العقيدة بالسياسة، والأسطورة بهواجس المؤامرة، وعلامات ظهور المسيح ونهاية الزمان.
ما يعيق فهمنا لطبيعة الصراعات وعلاقتها بالدين، بالإضافة إلى ضعف معرفتنا الأسبابَ الموضوعية لتلك الصراعات، ذلك الجهل العميق بالتراث الديني لغيرنا، ومثال على ذلك ما نجده من جهل عميق بالديانة اليهودية، وخلطٍ بينها وبين الصهيونية، وهو خلط لا يقل خطورة عن الخلط بين الإسلام والجماعات الإجرامية، التي تقتل الأبرياء باسم الإسلام.
من الظواهر التي تستحق الانتباه في علاقة الدين بالصراعات، هو ما نجده من تشابه بين نظرة المتصارعين إلى طبيعة الصراع، وتأثُّرِهم ببعضهم، وذلك ما يمكن تسميته بـ"المحاكاة الصراعية". فالأخذ بالإسلام من قبل بعض الحركات القتالية نحو الحرب الدينية -كما حدث مع اليهودية مثلًا-، سيؤدي إلى قتل روح الإسلام، وتلويث منابعه النقية.
في الصراع يجد الخصوم أنفسهم، مندفعين في البحث عن أي وسيلة متاحة للنيل من خصومهم، حتى وإن كانت تناقض أبسط القيم الإنسانية. وهنا يصبح المظلوم وظالمه سواء في البغضاء والجريمة، ويصبح الاختلاف بينهما لا يتعدى توقيت وقوع الجريمة. عندما يصبح الصراع عقيدة، فإنه يستحوذ على روح الدين، ويصبح غاية بذاته، وما يلبث أن ترتد آثاره على أتباع الدين الواحد. وهنا يتحول الناس من "الصراع الديني" إلى "الصراع الطائفي". وكما جرى تأصيل الصراع دينيًا مع الصهيونية، وجعله حربا دينية يهودية إسلامية، يجري تأصيل الصراع بين طوائف المسلمين، وجعلُه من مسلّمات العقيدة التي لا تحتاج إلى إثبات، أو دليل.
لا يحتاج "تديين الصراعات"، وشيطنة الخصوم، وجعلُهُم شرًّا مطلقًا، إلاّ لقليل من البغضاء والجهل وانحدار القيم الإنسانية، في حين يتطلب حل الصراع وفهم أسبابه الموضوعية، إلى كثير من الرقي، والرحمة، والمعرفة.
وفي سياق ذلك الرقي، نذكر “غاندي” الذي أعطى مثالًا رائعا لانتصار القيم الدينية على الاحتلال البريطاني، عندما نجح في تحرير الهند دون قتل ولا عنف. وقبل غاندي بثلاثة عشر قرنًا، كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يعطي مثالًا رائعًا، عندما عاد إلى بلده التي ظلمه أهلها، دون أن يريق دماء الناس، أو يستبيح حرماتهم.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.