هما صديقان عراقيَّان، أحدهما في إربيل والآخر في بغداد. الأول يعيش حالة من الفرح الذي لم يختبره من قبل، إذ يشعر بأنّه يشهد على ولادة حلم عمره عقود، وعلى نهاية ظلم بمختلف الوجوه. لكن هذا الفرح ممزوج بشعور غريب من الرهبة أو القلق، بسبب علمه بشعور صديقه الذي في بغداد. فهذا الأخير يعيش حالة من الغضب وخيبة الأمل، ليس فقط لخيار صديقه من إربيل الانفصال سياسيًّا عن وطنهما المشترك، بل أيضًا لشعوره بأنّ جزءًا من وطنهما المشترك لن يعود وطنًا له. ففي حال انفصال إقليم كوردستان عن العراق، لن يعود العراق بحدوده الحالية وطنًا نهائيًّا لجميع أبنائه. فجزء منه سوف يصبح وطنًا آخر لشعب آخر.
يُحاول كل من الصديقين التغلّب على المشاعر السلبيّة، عبر جمع الحجج والمبرّرات التي يمكن بها أن يُقنع الآخرَ بصحة موقفه. وكلاهما لا يعلم أو لا يتنبَّه على أنّ أسبابًا كثيرة أخرى، لا يريدانها ولا يدركانها أحيانًا، أسهمت في الوصول إلى هذا الواقع. يقول الذي من إربيل في نفسه، صديقي يفقه في حقوق الإنسان، ويعلم بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، المعترَف به من قبل هيئة الأمم المتحدة، والذي أصبح جزءًا من القانون الدولي. فلقد انتظر الشعب الكوردي طويلًا وطويلًا جدًّا للوصول إلى هذه اللحظة، حيث يقرّر هذا الشعب مصيره بنفسه، ويحدّد شكل الدولة التي يريد أن يعيش في ظلالها وطريقة حكمها. فهو في السابق قد عانى رَفْض هذا الحق من القوى السياسية الحاكمة، لا بل قاسى الظلم والاضطهاد بسبب ذلك.
كما يسأل هذا الشاب نفسه، لماذا صديقي البغدادي لا يفهم ذلك ويقبله؟ لكن هذا الشاب لا يتنبَّه أولًا على أن مفهوم حق تقرير المصير ارتبط تاريخيًّا بشكل خاص بحالة الاستعمار، وعمليّة تحرّر الشعوب المحليّة الأصيلة من حكم المستعمرين، وأن تطبيق هذا المبدأ يُصبح أكثر تعقيدًا عندما تكون المسألة مرتبطة بانقسام الأوطان أو انفصال جزء عنها. والمسائل الأخرى التي يتحاشى الإربيلي الإجابة عنها، هي أنّه إذا قام الوطن الجديد على أساس إثني، أي دولة قومية للكورد، أفلا يجب أن ينطبق ذلك أيضًا كحق مكتسب للكورد، على سوريا وتركيا وإيران؟ وهل يمكن أن يصبح بذلك هذا الحق مبرّرًا لصراعات وحروب قد تدمّر المنطقة؟ وماذا يكون مصير غير الأكراد في الدولة القومية الكوردية؟ هل يُصبحون مواطنين من درجة ثانية، أو ضيوفًا هامشيّين وإن كانوا من أبناء البلد الأصيلين؟
أما ذاك الذي في بغداد، فيُخاطب في فكره صديقه في إربيل قائلًا: العراق وطننا المشترك، وقد دفع أبناء العراق من مختلف المكونات الإثنية والدينية الغالي للمحافظة عليه. والشهادة المشتركة في الدم تؤكّد أنّنا شعب واحد في وطن واحد. ألم يُضحِّ بحياته الكوردي مع العربي لمحاربة داعش وإعادة السيادة إلى الدولة على كامل أراضيها؟ ألا تَعلم -يُتابع في فكره- أن لي أهلًا وأصدقاء مستعدّين للموت دفاعًا عن أرض العراق ووحدته؟ لكن بدوره يتجنّب هذا البغدادي التفكير في الدوافع التي جعلت صديقه يرغب في الانفصال. فلا يسأل نفسه كيف للكوردي أن يشعر بأنّه جزء من الشعب العراقي الواحد، وقد اضطهدَتْه سلطة هذا البلد أيام حكم صدام الاستبدادي لأنّه كوردي. ولا يُسائل الحكومات العراقية في المرحلة الحالية عن كيفيّة إدارتها للبلد ومقدَّراته على أساس الزبائنية الطائفية، بدل تعزيز المشاركة والشراكة على قاعدة المواطنة.
لقد عرفَت دول عديدة حالات من الانقسام مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا. فالدول ليست أزلية ولا هي أبدية، فهي نتاج ظروف تاريخيّة، ويمكن لظروف أخرى أن تُبدّل في واقعها. لكن من يتنّقل بين دول الاتحاد الأوروبي على مسافة آلاف الأميال بكل حرية، دون أن يُلاحظ وجود أيّة حدود أو حواجز، لا بدّ له أن يعتبر الانشقاقات السياسية بين الدول نوعًا من التراجع وليس التقدم السياسي والحضاري. بالأحرى، إنّه تعبير عن فشل في تحقيق دولة المواطنة العادلة والحاضنة للتنوّع. في هذا السياق، يبقى الانفصال تعبيرًا عن فشل، ولكنّه كالطلاق بين المتزوّجين، قد يكون خطوة ضرورية إلى الوراء للتمكن من الانطلاق مجدّدًا في الحياة.
بعد هذا التفكّر، بادر الشاب من إربيل إلى الاتصال بصديقه في بغداد ليُعبّر له عن شعوره بالحزن، وكأنّهما يعيشان حالة طلاق، وهما ليسا مسؤولَين عن كل أسبابها. وانتهى الاتصال على أمل أن يحصل هذا الطلاق، إذا كان لا بدّ منه، بعقلانية؛ لأنّ فيه إدارة للخسارة أكثر منه احتفالًا بالربح. وما دام العقد لم يُفسخ فلا يزال بصيص أمل بترميم المنزل المشترك، وإن تطلّب ذلك تحوّلات جذريّة غير مضمونة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.