كانت الكنيسة تُشكِّل حالة من الفزع والخوف لدى كثير من الأوروبِّيِّين في القرون الوسطى، قبل أنْ يجِدوا في العلمانيَّة فرصةً لكسر قيود الكهنة، وإزالة الرُّعب الَّذي كانوا يُعانونَه، نتيجة تَدخُّل الكنيسة في كلِّ شيء يخصُّ حياتهم. وربَّما يتَّفق كثيرون/ات على أنَّ العلمانيَّة جاءت كردِّ فِعل، على ظُلم الكنيسة واضطهادها للنَّاس، وتقييد حياتهم، وفرْض ما لا يتناسب وحقوقَهم وحرِّيَّاتهم الشَّخصيَّة؛ حتَّى تحوَّلَت من بديل لحُكم ثيوقراطيٍّ، إلى إطارٍ عامّ للحياة، وأساس خاصّ للدَّولة.
لستُ هُنا في موضع تحذير للأحزاب أو الجماعات الإسلاميَّة في العراق أبدًا، بل على العكس من ذلك، إنَّني أريد بدء الدَّعوة لحوار بين العلمانيِّين والإسلاميِّين في العراق. وهذا الحوار بكلِّ تأكيد سيختصر المسافات، وسيُقلِّل الأزمات إن لم يمنعها بالأساس. ولا يختلف الدَّاعون إلى إيجاد حُكم إسلاميٍّ أو علمانيٍّ في العراق، في أنَّ مجتمَعًا متعدِّدًا مثل المجتمع العراقيِّ، لا يُمكن أن يُصبَغ بلون واحد، ولا يُمكن لِدِين أو أيديولوجيَّة واحدة أن تتحكَّم في حياة النَّاس. لذا، هناك ضرورة للبحث عن نظام قائم على أساس المشتركات بين المجتمعات العراقيَّة، يُنْتج بالمحصِّلة دولةَ مُواطَنةٍ عادلة.
كثيرًا ما سألتُ نفسي خلال العامَين الماضِيَين تحديدًا، عن العشرات أو المئات من المؤتمرات، الَّتي عُقدَت في العراق أو شملتْهُ، لِتتحدَّث بِـ"حوار الأديان وتقريب وجهات النَّظر بينها". لكنَّني لم أرَ أيَّ مُبادرة للحوار بين علمانيِّي العراق وإسلاميِّيه؛ رُبَّما لقِصَر نظرٍ منِّي أو لِقِلَّة مُتابعة. ومنذ أيَّام، وأنا أبحث عن الحوارات الشَّهيرة، الَّتي حدثَت بين العلمانيِّين والإسلاميِّين، والَّتي صنَّفها أحد الكُتَّاب على أنَّها أشهر خمسة حوارات. كانت جميعها في مِصْر خلال الثَّلاثة عقود الماضية. لكنْ في العراق، لا أعْرِف هل حدَث أيُّ شيء من هذه الحوارات بشكل علنيٍّ وكبير، أو رُبَّما لم يَحدث بالأساس.
يدور في العراق الآن جدل كبير بين "العلمانيِّين" و"الإسلاميِّين"، حول أيِّ النِّظامَين أفضل بوصفه إطارًا عامًّا للدَّولة، أو لوضع قواعد عيش مشتركة بين العراقيِّين/ات. فبينما يرى العلمانيُّون أهمِّيَّة علْمَنة الدَّولة وقوانينها، يُبدي الإسلاميُّون مَخاوفهم على دينهم. إنّها فجوة كبيرة تتَّضح من خلال ما يَحدث في العراق بين الطَّرفَين. وهي ليست فجوة فحسْب، بل رُدود فعلٍ مُنتظَرة من كِلَيهما، فيها مَلامح غيظ كثيرة. ويُمْكن ملاحظة هذا في أيِّ مجموعة من "المجموعات النُّخبويَّة" الموجودة على "الواتساب"، باعتبارها صالونات حوار مفتوحة، وغير مُحدَّدة بوقت أو موضوع.
في حِسْبة غير ميدانيَّة بل تَوقُّعيَّة، فإنَّ العلمانيِّين/ات يُشكِّلون نسبة كبيرة في المجتمع العراقيِّ، أو النِّسبة الكبرى. هذا ما ألْمسه. ونستطيع أن نصفهم بالأغلبيَّة الصَّامتة، رغم علوِّ أصوات أفراد منهم. يُقابلهم وجود إسلاميٌّ ذو نفوذ ماليٍّ ومُسلَّح، داخل مؤسَّسات الدَّولة أيضًا. أمّا الصِّراع الَّذي أُجِّل منذ عام 2003 حتى الآن بين الطَّرفَين، فقد بدأت ملامحه تَظهر بشكل جليٍّ. وبدأت أحزاب أو جماعات دينيَّة، تُروِّج منذ عامين -وبشكل علنيٍّ- ضدَّ العلمانيِّين، واتُّهِموا بـ"العَمالة" لأميركا، وبمحاولات جلب العادات والتَّقاليد الغربيَّة إلى المجتمع العراقيِّ. وهذا ما أظهرَته خطابات متكرِّرة، لقيادات سياسيَّة دينيَّة.
في ذات الوقت، يُحمِّل العلمانيُّون الأحزابَ الإسلاميَّة، مسؤوليَّة ما آل إليه وضع العراق خلال الـ16 سنة الماضية. وبذلك، صِرْنا أمام صراع قد يتطوَّر في وقت لاحق، ويَخلق فجوة، ليس بين العلمانيِّين والإسلاميِّين فحسب، بل فجوة مجتمعيَّة.
إنَّ الدَّعوة إلى حوار بين العلمانيِّين والإسلاميِّين في العراق، وإجراء مناظرات بين شخصيَّات الفريقَين البارزة، بات ضرورة مُلحَّة للمُكاشفة والمصارحة، وخلْق مساحات غير خجولة من الحوار الَّذي يجب أن يكون. فالحوار الَّذي ندعو إليه، هو حوار خالٍ من التّسْيِيس الَّذي يُخرج الحوار عن أغراضه؛ بمعنى أن يكون المتحاورون ليسوا من الأحزاب العلمانيَّة أو الإسلاميَّة، وليسوا جزءًا من المنظومة السِّياسيَّة بالأساس، حتَّى نتمكَّن من الوصول إلى نتائج، تكُون في حدودها الدُّنيا مُفيدة وغير مُسيَّسة.
إنْ لم يُساعد هذا الحوار على تقريب وجهات النَّظر بين الفريقَين، فإنَّه على الأقلِّ سيَخلق مساحات من الحوار بينهما، ويُخفِّف حدَّة الاحتقان والخلافات. وبذلك، سيؤسِّس لحوارات أخرى، ويَخلق جيلًا من المُدرِكين للمفاهيم العلمانيَّة والإسلاميَّة، بعيدًا عن التَّشويش الفكريِّ الَّذي يجري الآن. فيحتاج هذا الحوار إلى جهد من إحدى مؤسَّسات المجتمع المدنيِّ، أو المؤسَّسات المَعنيَّة بالفكر، على أن يكون في أماكن عامَّة، وتتحدَّث فيه شخصيَّات متعدِّدة، حتَّى يُمكن الوصول إلى نتيجة، بخصوص الصُّور النَّمطيَّة عن الفريقَين، ومعرفة هل هي مُمَنهجة أمْ فرديَّة!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.