شهِد المَغربُ الأسبوع الماضي نقاشًا حادًّا، حول ندوة كان من المُزمَع تنظيمها حول موضوع "الحرِّيّات الفرديّة في ظلِّ دولة الحقِّ والقانون"، تَتناول مجموعةً من القضايا مِثل: حرية المعتقد، وحقوق الأقلِّيّات الدينية، وأيضًا الحريات الفردية. لكن الدولة أصدرت قرارًا بمنعها؛ بسبب مَوجة من الانتقادات المستَنكِرة حصولَ التطرُّق لهذه المواضيع بطريقة علنيَّة، في دولة تَعتبر الإسلامَ دِينها الرسمي، وترتكز دومًا على وَحْدتها المذهبية.
أعادت رُدودُ الأفعال النِّقاشَ إلى مجال موضوع العلاقة بين الدين (أو بالأحرى التديُّن)، والمجالِ العامّ. فهل المجال العامّ فَضاءٌ تتملَّكه عقيدةٌ دينية واحدة، أم تتشارك فيه كلُّ العقائد؟ هل الدين جزء من هذا المجال، أم أنه القوة المهيمِنة على هذا المجال، انطلاقًا من مَقُولات معتَقَد الأغلبيّة ودين الدولة؟ لا شك أن الأمر يتعلق بسؤال أساسي، في مجتمعات تسعى للديمقراطية، ولتأسيس قيم التعدُّد والاختلاف.
أكَّد الرافضون لفكرة نقاش تلك القضايا في المجال العامّ، أن الفكرة تستهدف الهُوِيَّة الإسلامية في المَغرب. وبخصوص الأقلّيَّات، ذهب بعضهم إلى حدِّ رفضِ الحديث بِفكرة أقلِّيّات دينية؛ إذ لا وجود إلَّا لِجاليات دينية، أي "نصارى أجانب" أو "شيعة أجانب"، لكن لا يمكن الاعتراف بالمتنصِّرين أو المتشيِّعين، أي المغاربة المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية أو المذهب الشيعي. أمَّا بخصوص مُعتنِقي الأحمديَّة أو البهائيّة، فهم لا يشكِّلون -بحسب هؤلاء- أقلِّيّةً ولا جالية، لأن البهائيّة "طائفة كافرة" أو "نِحْلة لَقِيطة".
رُدود أخرى رأت أن من حقِّ المنتمين لهذه الأقلِّيّات أن تكون لهم قناعاتهم الخاصة، لكن لا سبيل إلى أن تنتقل هذه القناعات إلى النِّقاش العمومي؛ وذلك حرصًا على الأمن الروحي للمغاربة، وتفادِيًا لِـ"زعزَعَة عقيدتهم"، في حين لا تنفكُّ هذه الأقلِّيّات تُطالِب بمعاملتهم كمواطنين، مع تأكيد حقِّهم في دخول المجال العامّ، من خلال حرّيَّة التعبير عن قناعاتهم والدعوة إليها. نقطة ضوء في هذا النِّقاش في المَغرب، شكَّلَها موقفُ قِياديَّةٍ في حزب العدالة والتنمية ذي المرجِعيّة الإسلامية آمِنَة ماء العينين، حيث أكَّدَت أن المجتمع الذي "يخشى مجرَّد ندوة في قاعة على عقيدته وقِيَمه الجماعيّة، مجتمع مرتبك وفاقد للثقة".
ينشأ المجال العامّ، حسب هابرماس، مِنِ الْتِقاء الأفراد، بصفتهم ذَواتٍ مُفَكِّرة ومواطنين مستقلِّين، وذلك من أجل التداول في الصالح العامّ، عَبْر التأسيس لإجماع مستقلٍّ عن جميع العقائد؛ ما يحصِّن المجتمع من طغيان الأغلبيّة. لكن، في الكثير من البلدان الإسلامية، تَنزِع الأغلبيّةُ كما الدولة نحو فرض نَمط تديُّن مهيمِن؛ فتنتشر فُوبيا الاختلاف، وتُستعمل مقولة الفتنة من أجل ترسيخ ثقافة الولاء للعصبيَّة السائدة.
أعتقد أنه أصبح من الضروري التفكيرُ إسلاميًّا في الحياد الديني للمجال العامّ، ووضعُ حدٍّ لمَأسَسَة التديُّن الجماعي وإلزاميّته. هذا التفكير ممكن من خلال القراءة الإيجابية للإسلام حيث مفهوم الأمَّة، حسب ما يؤسِّس له القرآن والسُّنّة العمليّة للرسول. مثلًا: وثيقة المدينة، هي إطارٌ حاضن للاختلاف وتجسيدٌ للفضاء العامّ. ويمكن تأصيل فكرة المجال العامّ من خلال مبدأ الاستصلاح عند الأصوليِّين، أي الاجتهاد من أجل بِناء معيار فكريّ عمليّ لتحقيق المصلحة في العلاقات الإنسانية. فالنِّقاش العمومي يحقِّق المقاصد الكبرى للإسلام، انطلاقًا من قيم العدل، والتسامح، والتواضع، والمساواة.
عندما أستَمِع لخطاب بعض المتديِّنين حول ضرورة منع "الفِرَق الضالّة" من نشر أفكارها الهدَّامة، لا يسَعُني إلَّا أن أذكِّرهم بقوله تعالى: {لَا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشدُ من الغيِّ}. ولا شك أن حرّيَّة إعلان المعتَقَد جزءٌ لا يتجزَّأ من حريّة العقيدة، وهي حقٌّ أعطاه الله للبشر، فكيف نسلبه منهم؟ كم نحن محتاجون إلى أخلاق التواضع! فنحن نريد أن نَحسم الاختلافات العَقَدِيَّة في واقعنا الاجتماعي، في حين أن الله أرجَأَها إلى الحياة الأخرى كي نَعِي نسبيّة مداركنا، وأنه لا سُلطة لنا على عقائد الآخرين، وأمَرَنا سبحانه باستثمار الاختلاف من أجل بناء مجتمع الخير والتراحم، في قوله تعالى: {فَاستبِقُوا الخيرَاتِ إلى اللهِ مَرجعكُم جميعًا فيُنَبِّئكُم بما كنتُم فيه تختلِفُون}.
أعتقد أن مِثل هذا المجتمع، حيث يختار الناس عقائدهم وطُرق خلاصهم خارج منطق الأغلبيّة والأقلِّيّة، لا يمكن أن يتحقَّق في سِياقات التعدُّديّة المتزايدة، إلَّا من خلال النِّقاش العمومي وحرِّيّة التعبير. عندها فقط {ويكونَ الدِّينُ كُلُّه لله}، والكرامة والحرّيّة للبشر كُلِّهم.. والله أعلم!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.