لولا أن الحدث مأسَوِيّ، لكان درسًا في التعايش. وباستثناء كونه نقطة سوداء في معايير الأمن والسلامة، لكانت كل تفصيلة من تفاصيله درسًا في الطبيعة البشرية حُلوها ومُرّها. حلو مباراة كرة القدم التي أقيمت يوم السبت الماضي في ستاد "لوفتس رود" التابع لنادي "كوينز بارك رانجرز" (غرب لندن) أجواءٌ كرنفالية، ومشاركةٌ لنجوم الرياضة والترفيه، ومدرَّجات امتلأت عن آخرها، وأجواء إنسانية رائعة. أمّا مُرُّها، فهدفها.
هدف المباراة التي لم يتحدث أحد عن أهدافها المحرزة، كان جمع الأموال لمصلحة ضحايا حريق "برج غرنفيل" السكني. الحريق الذي هز بريطانيا والعالم بأسره أسفر عن موت 80 شخصًا من جنسيات وأصول عرقية مختلفة في حزيران (يونيو) الماضي. البرج ذو الـ24 طابقًا و120 شقة تحوي نحو 800 شخصٍ يقف شاهد عيان على مأساة رهيبة. لكنه في الوقت نفسه يقول الكثير عن التعددية الثقافية والعرقية والدينية والاجتماعية المتعايشة تحت سماء واحدة.
سماء "برج غرنفيل" حوت لاجئِين من سوريا، ومهاجرين من مصر، ومنتظرين قرار التوطين من الصومال، وأسرةً لبنانية ممتدة، ومهاجرين من جامايكا، وعمالًا بولنديين، والعديد من الأسر المغربية، وآخرين من جنسيات عدة وأصول مختلفة، وبريطانيين يحظَون بإعانات السكن الحكومية، وغيرهم.
وراء كل باب في البرج المحترق ثقافة مختلفة، وحياة مغايرة، ومعتقدات لا تتشابه وغيرها. لكن الوجوه -سواء تلك التي احترقت أو التي نجت- يجمع بينها أصول إنسانية متطابقة. هذه الأصول هي التي عبرت عن نفسها في الأيام التي تلت الحريق الكارثي، عبر آلاف المتبرعين والمتبرعات بالوقت والجهد لنجدة الجيران. فتيات من أصول آسيوية طهَوْن كميات هائلة من البرياني. شباب من أصول شرق أوسطية وزعوا الأغطية والملابس. مجموعات بريطانية متعددة الأعراق نظمت نفسها لتوفير الدعم النفسي للعائلات. وأخرى تابعة لجمعيات خيرية جهزت قوائم بأسماء وعناوين المراكز الرياضية والمدارس القريبة التي فتحت أبوابها لإيواء المتضررين.
أما الأسابيع القليلة الماضية، فشهدت سلسلة من الفعاليات الترفيهية والفنية والرياضية لجمع الأموال لمصلحة أسر الضحايا والمتضررين. المطربة آديل دعت مجموعة من أطفال ضحايا البرج لمشاهدة فيلم Despicable Me في السينما. لاعب الكرة رحيم سترلينغ تبرع بمبلغ مالي ضخم. لاعب فريق "أرسنال" هيكتور بلرين يتبرع بـ50 جنيهًا إسترلينيًّا عن كل دقيقة لعب في البطولة الأوروبية للفِرق تحت 21 عامًا. وقائمة المشاهير طويلة جدًّا.
لكن أطولها قوائم سكان "شمال كنزينغتون" الذين قدموا وقتًا وجهدًا وطعامًا ومالًا، وفتحوا بيوتهم لجيرانهم دون سابق معرفة شخصية، وشأنهم في ذلك شأن الـ20 ألف مشجع ومشجعة الذين اشتروا تذاكر مباراة الأسبوع الماضي. منهم من لم يحضر مباراة في حياته، أو لا يعرف قواعد اللعبة، أو قطع أميالًا طويلة في يوم عطلته ليشارك، أو حضر ليقول للمتضررين الذين حضروا: "لستم وحدكم. نحن معكم"!
الجانب الأكبر من الطبيعة البشرية -مع بعض إضافات التعليم المتنور والتنشئة الواعية والقوانين الضامنة- يميل إلى الإنسانية والتضامن مع قيمها. أسرة الضحية الشاب الذي لجأ إلى بريطانيا هربًا من النيران السورية ليلقى حتفه في نيران "غرنفيل تاور"، تلقَّت دعمًا يعكس انتصار الإنسانية. 85 ألف مواطن بريطاني وقّعوا عريضة تطالب الحكومة بالسماح لأسرة الشاب بالحضور من سوريا لدفنه. ساعات قليلة، وكانت وزارة الداخلية البريطانية قد اتخذت خطوات استثنائية، وأصدرت التأشيرات اللازمة. مراسم الدفن حضرها عمدة لندن صديق خان (من أصول باكستانية مسلمة)، كما حضرها آلاف لا يعرفون الضحية المسلم السني. لكن هذه الآلاف لم تشغل بالها كثيرًا بهوية الشاب. كانوا هناك على سبيل التكافل والتراحم والتعايش.
ومع التكافل والتراحم والتعايش، يأتي كذلك التخاذل والتجافي والتباعد. إنها الطبيعة البشرية التي لا تستوي على حال واحدة، أو تتطابق في سمات بعينها. قرار الحكومة بإعاشة سكان البرج في 68 شقة في مجمع سكني راقٍ في "كنزينغتون"، دفع بعض السكان إلى الشكوى والتضرر والتهديد بمنع القادمين الجدد من دخول الشقق. وجهة نظرهم أنهم دفعوا مبالغ طائلة لشراء شقق ينعمون فيها بالرقي والفخامة والوجاهة، لا بالسوقية والقبح والوضاعة! "أليست هذه سمات المهاجرين واللاجئين والمَوضوعِين على قوائم المساعدات الحكومية؟!" قال أحد المتضررين!
لكن لا مجال للتضرر هنا. فما دام القانون يحمي الجميع ويعاقب المخطئين، وقيم المجتمع تدعم التعدد، فنحن على مايرام؛ وما دامت أعداد المرحِّبين بالاختلاف تفُوق الرافضين، فحُلوها يفوق مُرّها.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.