لا تتوقف النقاشات في العديد من المجتمعات العربية، حول جدوى الانتفاضات الشعبية في إحداث التغيير الإيجابي، في واقع المناطق التي شهدَتها. وعادةً ما يَبرز اتِّجاهان في هذه النقاشات: الأول منهما يرى أنه لا جدوى لهذه الثورات، وأنَّ الأفضل هو البقاء تحت ظلِّ النظام الحاكم مهْما كانت تَجاوُزاته، لأنَّ كُلْفة التغيير أكثر من ثماره. والاتِّجاه الثاني يرى أنَّ الاستبداد والفساد، هما سببان يوجبان على الشعوب الثورة في سبيل التغيير، لا سيَّما إنْ تَرافَق ذلك مع انسداد أدوات العمل الديمقراطي.
إذن، هل يجب أن نَثُور على الاستبداد والفساد والأوضاع المعيشية المتردِّيَة، في سبيل إحداث تنميَة حقيقية، وبناء وطن يَنعم فيه ساكِنُوه بحقوق المواطَنة المتساوية، مهْما كانت كُلفة التغيير، أمْ هل يجب علينا الاقتناع بأنصاف الأشياء وأعشار الحقوق، وقبول مزاج الحاكم، خوفًا من الانزلاق نحو الفوضى والخراب، وهي النتيجة التي آلت إليها الكثيرُ من الانتفاضات الشعبية في المنطقة؟
الاستبداد أَمِ الفَوضى؟ لِكلِّ مَسارٍ منهما ثَمنٌ أسوَأُ من الآخر. فهذان الخِياران -وإنْ ظهَرَا متضادَّيْن في الاتجاه- يدُلَّان على اكتشاف متأخِّر للأزمة، والاختلاف بينهما هو حول كيفية التعامل حِيالها. إنَّ التأخُّر في الحديث في الأزمة، أو في العمل على حلِّها، كان السبب الرئيس في اضمحلال الحلول، ووُصولها إلى خط النهاية على شكل خِيارَين اثنَين فقط. لذا، ينبغي الإشارة إلى أنَّ جزءًا من النقاشات الدائرة بين التَّيّارَين، هو نقاشُ شأنٍ عامٍّ مؤجَّل، لم يكن لدى الشعوب وعيٌ كافٍ للحديث فيه قبل الوصول إلى الانسداد الأخير. إنَّ اكتشاف هذه التفريعة السببيَّة لا يبدو مفيدًا لتغيير الموقف؛ وإنما هو درْسٌ مستفاد لجيل قادم، يجب أن يضعه نُصب عينه قبل الوصول إلى نفس الوجهة.
في تحليلِنا للخِيارَين: ماذا لو كان الاستبداد والفوضى يقفان إلى جوار بعضهما بعضًا، على عكس ما نتصوَّرُهما كخيارات متقابلة؟ يبدو هذا الأمر أكثر منطقية؛ إذ السُّلطة الديكتاتورية تُنتج الاستبداد والخراب معًا، وتتسلَّح بهما كأدوات، وتَملك مفاصل إدارة العلاقة بينهما. فالاختلاف هو في الظَّرفية الزمانيَّة للأداتَين فقط؛ أمَّا الاستبداد، فيبقى ما بقِيَت القدرةُ على تَحمُّله والإذعان له. وفي حال حدوث صحوة متأخِّرة، تَبرز أداةُ الخراب كعقوبة مستحَقَّة، قادمة من عباءة السُّلطة المستبِدَّة أيضًا.
إنَّ خطورة النُّظم المتسلِّطة، لا تَكمن في عدم قدرتها على إحداث تنميَة مستدامة فقط، وإنما في قدرتها أيضًا على إنتاج الخراب متى أرادت. هذا الأمر ليس حصْرًا في الشُّخوص الدِّيكتاتورية فقط؛ وإنَّما يمتدُّ ويتمدَّد كمنظومة متماسكة، قادرة على تَكرار ذاتها بوجوه جديدة من وقت إلى آخَر، مستخدِمةً سَطوة الفوضى. والمجتمَعات -حتى وإنْ تجاوَزَت فوضى من ثارت عليه- ستكُون على موعد مع فوضى أخرى؛ إذ الكثير من المجتمعات، ترى الثورات الشعبيَّةَ أمرًا شبيهًا بالانتخابات، تكُون نتيجتها استبدال حاكم بحاكم جديد، أو استبعاد سلطة وإحلال أخرى، تَعمل على إنتاج حلولٍ فَوريَّة لكلِّ الأزمات المتراكمة في وقتٍ قياسِيّ. وإنْ لم يَحصل ذلك، حُكِم على حركة التغيير بالفشل.
عادةً ما تَعجز مجتمعات ما بعد الثورة عن تحقيق ذلك، لأنَّ استحقاقات الإصلاح تكُون قد بلغَت أعلى درجات الكُلفة، وتترافق مع انقسامات بَينيَّة واختلافات، تَجعل حركة التغيير في نظر الناس خطيئة. ما لا يدركه بعضهم، هو أنَّ مَنطق الثورات أشبَهُ بالنقطة الصِّفريَّة. وضَمانًا لنجاحها؛ يجب أن تُعِيد بناء عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، يحقِّق مبادئ العدالة والمواطَنة، وهو أمرٌ لا يتأتَّى في زمن قصير في الظروف الاعتيادية. فماذا لو أُضِيفَ إليها تحدِّيَات صراع المصالح بين قُوَى المجتمع، وغيابُ الرُّؤَى الإصلاحية التَّوافقية؟!
يصيب المجتمعَ الكثيرُ من الإحباط، وهو ينتظر دفْعَ أثمانٍ باهظةٍ، ثمرَةَ كُلَف التغيير. ومع بروز ظاهرة الرَّفْه الشخصي من حساب القضايا الوطنية، تَدخل المجتمعات في صراعات جانبية تُقوِّض آمال الإصلاح، وتغذِّي انقسامات مجتمعية لا تنتهي، وتكُون مَراتع خصْبَة لظهور استبدادت جديدة. وتلك فَوضى أخرى، تُضاف إلى سابقتها.
في الحديث في ثنائيَّة الاستبداد والفوضى، يبدو أنَّ الوعي هو كلمة السِّرّ للخروج من هذه المتاهة. وهو الوعي المبكر بمخاطر الاستبداد، والوعي للحيلولة دون امتلاكه لأدوات الفوضى، والوعي بضرورة رفع صوت التغيير منذ أول انحراف لقطار منظومة السلطة والمجتمع. أمَا وقد وصلْنا إلى محطة هذه الثنائية، فالوعيُ بكيفية الخروج الآمن غير العنيف، هو عبْر هذا السبيل، كما النِّضال السِّلمي الراشد. فهو -وإنْ أخذ وقتًا أطْوَل- يُنتج طُرقًا بديلة للخروج من هذه المتاهة. وتَبقى تجارب النجاح والإخفاق لثورات الشعوب، مَصدر إفادة لا يمْكن تَجاهُله.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.