لم يَذكر القرآن جميع الأديان التي كانت سائدة إبَّان البعثة، حسب ما هو الحال مع الديانات: البوذية، والكونفوشيوسية، والجينية، والطاوية؛ وهذا يدل على أن القرآن لم يكن يقصد تناوُل الأديان جميعها، وإنما تقديم معالجة لنماذج من القضايا الدينية القريبة من المجتمعات العربية في زمن البعثة النبوية، بالإضافة إلى أنه فتَح أمام العقل الإنساني، المجال لتحصيل معرفة الأديان على الوجه الأكمل.
اِنتقد القرآن التفكير الإقصائي الذي ينفي عن الآخر إمكانية بلوغ الصواب، وهو من المشاكل التي كانت شائعة بين كثير من أتباع اليهودية والمسيحية زمن التنزيل، فقال: {وقالت اليهود ليست النَّصارىٰ على شيءٍ وقالتِ النَّصارىٰ ليستِ اليهودُ على شيءٍ وهم يتلونَ الكتابَ كذلكَ قالَ الَّذينَ لا يعلمونَ مثلَ قولهم} [البقرة: 113]. والمؤلم أنه وبعد نزول القرآن بأكثر من أربعة عشر قرنًا، ما يزال كثير من المسلمين ومن أتباع الأديان يعيدون إنتاج هذه المشكلة، وهم يَحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا!
ينتقد القرآن تبخيس الناس أشياءهم، وهذا يشمل الاستهزاء والاستخفاف بما لديهم من أشياء مادية أو معنوية، دينية كانت أم علمية، فيقول: {ولا تَبخسُوا النَّاسَ أشياءهمْ ولا تعثوا في الأرضِ مفسدينَ} [هود: 85]. وما تزال رذيلة "التبخيس" تمثِّل سلوكًا شائعًا وشائنًا، يقع فيه كثير من أتباع الأديان إلى يومنا هذا.
وقد أشار الإمام الأشعري إلى عدد من المشكلات التي كانت شائعة في زمانه حول دراسة الأديان، فقال: "ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنِّفون في النِّحَل والديانات، مِن بين مُقصِّر فيما يحكيه، وغالِطٍ فيما يذكره من قول مخالفيه، ومِن بين معتمِد للكذب في الحكاية إرادةَ التشنيع على من يخالفه، ومِن بين تارِك للتقصِّي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومِن بين مَن يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به..." (مقالات الإسلاميين).
تزداد درجة التحيُّز والانتقائية السلبية في دراسة الأديان، مع زيادة حدة الصراعات والنزاعات بين أتباع الأديان. وكمثال على ذلك، ما نجده من انتقائية لدى كثير ممن كتبوا حول الديانة اليهودية، أو قبول الاعتماد على مصادر ملفَّقة كما هو الحال مع "بروتوكولات حكماء صهيون"، فهي لا تمثِّل مصدرًا علميًّا معتمَدًا في دراسة الديانة اليهودية.
ومن مظاهر التحيُّز لدى بعض المنشغلين في مقارنة الأديان الازدواجية المعيارية، أنهم يذهبون إلى تأويل نصوص ديانتهم التي يتنافى ظاهرها مع التنزيه والتعظيم، مقابل نظرتهم الحرفية إلى النصوص الدينية الأخرى، ورفضهم لأي محاولة تأويلية من أتباعها. ومن المفارقات الطريفة، أن كثيرًا ممن يخوضون في نقد الأديان الأخرى، يقعون في ذات الأخطاء التي يلومون عليها غيرهم: كالانتقائية، والأحكام المقدَّمة، والتناقض، والجهل باللغات الأصلية لنصوص الأديان التي ينتقدونها.
ما يزال الجدل الدفاعي الحِجاجي يتغلب على المقصد المعرفي، لدى عدد كبير من المتصدِّرين لدراسة الأديان في فضاءاتنا التعليمية. وأيضًا تتصدَّر الرغبة في "إفحام المخالف" وإظهار التفوق عليه، المشهدَ الإعلامي الديني المعاصر. وقد أدرك "البيروني" هذه المشكلة في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)، عندما قال: "وليس الكتاب كتاب حِجاج وجدل حتى أستعمِلَ فيه بإيراد حُجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحق، وإنما هو كتاب حكاية فأُورِد كلام الهند على وجهه".
ومن الأخطاء التي تشيع بين كثير ممن يخوضون في مقارنة الأديان، القيام بمقارنة الجوانب النظرية المثالية في الديانة التي ينتمون إليها، ببعض أسوأ الجوانب العملية السلوكية في الديانة الأخرى. وحوْل المقارنة الخاطئة بين الأديان، يقول العامري في كتابه (الإعلام بمناقب الإسلام): "صورة الصواب معلَّقة بشيئين: ألَّا يوقِع المقايسة إلا بين الأشكال المتجانسة، والآخر ألَّا يُعمَد إلى خلَّة موصوفة في فرقة من الفرق، غير مستفيضة في كافَّتها، فينسبها إلى جملة طبقاتها."
إن البحث عن النصوص المتشابهة والظَّنيّة في الأديان الأخرى، والانطلاق منها لإصدار أحكام مطلَقة وقطعيّة، يعبِّر عن حالة من الاختلال القيمي. فعندما لا يرى الناسُ في أديان غيرهم سوى النقائص والعيوب، فإنهم يقدِّمون أسوأ أنموذج من قيمهم الدينية، وينحرفون عن منهج القرآن الداعي إلى البحث عن "كلمةٍ سَوَاءٍ".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.