نُجازف في الكتابة عن تاريخ التنوع في المنطقة، بتقديم نسخة غير رسمية من التاريخ، إذ يسُود حذر لاعقلاني من الإشارة إلى طبيعة التنوع الديني والإثني واللغوي في مجتمعاتنا، وتُهَيمِن "مقارَبة أمنية" ترى في التنوع عامل تهديد للوَحْدة الوطنية، بدلًا من أن يُعدَّ عامِل قوَّة وغنًى.
تُعدُّ كتابة التاريخ العراقي خلال العقود الماضية مِثالًا ظاهِرًا. فمع الدور البارز للأقلِّيّات الدينية في بناء الدولة، جرى طمسُ هذا الدور لمصلحة نسخة انتقائية من التاريخ، عِلمًا أنّ أول وزير مالية كان يهوديًّا "ساسون حسقيل"، حيث أسهم في تأسيس مشروع الدولة/الأمّة، وكان أول رئيس جامعة لبغداد مسيحيًّا "متي عقرواي"، في حين كان ثاني رئيس لها مندائيًّا "عبد الجبار عبد الله"، وكان المستشار الأقرب لملك العراق "فيصل الأول" بهائيًّا "حسين أفنان". أيضًا اضْطَلعت بعض نساء الأقليات الدينية بقيادة مجتمعاتهنَّ في فترات حرجة، مثل: "ميان خاتون" الأميرة الإيزيدية، و"سورما خانم" الأميرة الآشورية.
من نتائج السياسة الانتقائية لكتابة التاريخ، الجهلُ شبه التامّ بتركيبة المجتمع التعدُّدية، على نحو مؤثِّر في طبيعة تفاعل الدولة مع مجتمعها خلال التغيرات السياسية العنيفة، ثم تنميط المجتمعات الثرية في هُويَّة أُحادية (بيوريتانية). على سبيل المثال: اختُصرت هُويّة العراق في جماعاتها الكبرى (الشيعة، السُّنّة، الأكراد)، وأَخفى هذا التنميط ميراث حضارة بلاد الرافدَين (ميزوبوتاميا) التعدُّدي، والذي يشكِّل قاعدة للعراق المعاصر.
كانت أبرز المحاولات لتوثيق التنوع الديني في القرن العشرين، تتمثَّل بعمل مؤرخ الدولة الرسمي عبد الرزاق الحسني (1997-1903)، الذي عُرف بمؤلَّفه (تاريخ الوزارات العراقية) في عشرة مجلَّدات. قدَّم الحسني ثُلاثيّته الشهيرة "اليزيديُّون في حاضرهم وماضيهم"، و"الصابئون في حاضرهم وماضيهم"، و"البابيون والبهائيون في حاضرهم وماضيهم"، كعمل مُوازٍ لتاريخه السياسي. ومع أن عمله امتاز بالانتقائية، والافتقار إلى التحليل الحقلي (الميداني)، فقد كان يتطابق مع مشروع النُّخب السياسية لبناء دولة/أمّة بمضمون قَومي عُروبي. لذا، ظهر الإيزيديون في عمله كفرقة إسلامية منشقَّة، واعتقَد أن المندائيِّين وثنيُّون يعبدون الكواكب، في حين عدَّ البهائيِّين خارجين عن المركزية الإسلامية ودائرة الأديان الإبراهيمية.
في مقابل هذه النسخة الرسمية، قُدِّمت نسخة معارِضة في سبعينيّات القرن الماضي، حين حاول الإيزيديون والمندائيون الكتابة عن معتقداتهم الدينية بأنفسهم، كما قَدَّم عالم الاجتماع المثير للجدل "علي الوردي" (1913-1995)، نسخة مناهضة للتاريخ الرسمي، في تاريخه الاجتماعي الشهير (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق المعاصر) في ثمانية مجلَّدات، وبشكل خاص أتمَّ الوردي عملًا لم يَسبقه إليه أحد من قَبْله من الكُتَّاب العرب، ألَا وهو الكتابة عن "قرّة العين"، والإشارة إلى "بهاء الله" مؤسِّس الديانة البهائية على نحو موضوعي.
لمّا كانت السلطة تسيطر على تشكيل صورة الواقع، وتحتكر تفسير التاريخ لشَرْعَنة نظامها السياسي، فقد تبنَّت دوائر أمنية مقارَبة سُلطويّة، لِعدِّ الاهتمام بقضايا التنوع تهديدًا للوحدة الوطنية، قبل أن تتمَأْسَس كتابة التاريخ من خلال لجنة خاصة هي (هيئة كتابة التاريخ)، والتي انصبَّ نشاطها في إعادة النظر في التاريخ العربي الإسلامي عامة، وتاريخ العراق خاصة. أَنجزَت اللجنة أهمَّ أعمالها بإشراف وزارة الثقافة والإعلام، كتاب "حضارة العراق"، الذي يُعدُّ موسوعة هائلة في 13 مجلَّدًا، تغطِّي تاريخ العراق منذ القدم حتى الوقت الحاضر. يَطْرد هذا الكِتاب الموسوعي المسيحيين وبقية الأقليات الدينية من مسرح التاريخ، مركِّزًا على نسخة انتقائية تعبِّر عن تاريخ متصل، من نبوخذنصر إلى صدّام حسين، تاريخ مؤَدْلج لا يعرف الانقطاعات ولا التحولات.
بالمِثل، لم يتناول أبرز الكُتَّاب المعارضين لنظام البعث قضايا التنوع، مع أنهم وثَّقُوا انتهاكات السلطة؛ إذ كان التركيز بالدرجة الأساس على الجماعات الكبرى مثل "الشيعة" و"الاكراد"، كما في كتاب حسن العلوي "الشيعة والدولة القومية"، أو كتاب كنعان مكية "القسوة والصمت" الذي يركز على إبادة الأكراد.
أمّا الآن، وفي عصر نهاية الدكتاتوريّات في العالم العربي، فأعتقِد أنه لم يعُدْ هناك مكان لتاريخ انتقائي مُؤَدْلج، لا سيما مع مخاطر نهاية التنوع في سوريا والعراق. لذا، أدعو الباحثين العرب إلى التخلِّي عن حذرهم اللاعقلاني، وإبراز أهمية التنوع وسبل إدارته الرشيدة. وبعد أن حاولتُ خلال أربعة عشر مؤلَّفًا إثارة الاهتمام بالتنوع، كمَصدر غنًى وعامِل وَحْدة وسط سياسات الانقسام السائدة، أتمنَّى أن أرى اهتمامًا مُماثلًا، يشمل المنطقة بأسرها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.