اِلتحقتُ حديثًا كمتطوِّعة لتدريس القرآن الكريم في المدرسة الإسلامية، بالمدينة التي أقيمُ بها حاليًّا في أميركا. المعلمون والمتطوعون والطلاب في هذه المدرسة، من جنسيات عربية وغير عربية، إلّا أن هناك غلبة في العدد للجالية المصرية. جرى تكليفي بتدريس أربعة من الأطفال العرب، وصادف أنهم جميعهم من الجالية المصرية. كانت أول تجربة تدريس لي هذا الأسبوع، نقرأ فيها الآيات معًا، ثم أشرحها.
خلال حديثي مع الأطفال، كنتُ ألفظ تِلقائيًّا كلمة "دقيقة" بترقيق القاف، حسب ما تعوَّدْنا نُطقَها في اللهجة الحجازية. فقام أحد الأطفال وعلَّق على ذلك وسط ضحك بقيّة رفاقه. بدا الأمر طريفًا بالنسبة إليَّ، إلّا أن الطالب لم يكتفِ بذلك، بل اقترب مني وأخذ فكَّيَّ بين يديه، وصار يعلِّمني كيف أنطق كلمة "دقيقة" بلهجته المصرية "دئيئة" (بتحويل القاف إلى همزة)، وشدَّد عليّ في أن أنطق مثله، لأن لفظي خاطئ ومضحك جدًّا ولا يصحّ!
بقية الأطفال الثلاثة كانوا يشاهدونه وهو يعلمني، ويبتسمون بمكر طُفوليّ، ويخبرونني بأني مع المحاولة سأنجح. أمّا عن شعوري، فقد كنت مأخوذة جدًّا بالموقف ومُحرَجة ومتلعثمة، وشعرت فجأة بأني لست واثقة مما أقول وبأني على خطأ، مع معرفتي أن الموضوع ليس كما يَعرضه الطفل، ولا يَعْدو أن يكون مجرد اختلاف لهجات. لم يكن مجرَّد سلوك الطفل قد أثَّر فيَّ، بل أيضًا انجذاب الأطفال الآخرين إليه ومؤازرتهم لفِعله؛ ما جعلني أشعر أوّل وهلة بأني لا أنتمي إلى المكان كلِّه.
سرعان ما استجمعتُ نفسي وعُدتُ لطبيعتي، وضحكتُ جدًّا من الموقف، وأدركتُ أني تحت ضغط ثقافي ولغوي يمارسه الأطفال عليّ لأني مختلفة عنهم. تعجَّبتُ من وجود هذا السلوك، لدى أطفال نشأوا في بيئة متعددة الثقافات واللغات كأميركا، وسط جالية عربية وإسلامية متنوعة جدًّا. أخبرتُهم في الوقت القصير المتبقِّي من الدرس بأن لهجتي تختلف عن لهجتهم، وبأننا ننطق كلمة "دقيقة" بشكل مختلف. ثم إن هناك لهجات أخرى في العالم العربي، تنطقها أيضًا بشكل مختلف عني وعنهم. انتهى وقت الدرس، وذهب الأطفال بعد أن أثاروا في ذهني تساؤلات وخواطر. ربما يُنظر ببساطة إلى الموقف الذي حصل بيني وبين طلاب المدرسة الإسلامية، وقد يكون مناورة من الطفل لتشتيت الحصة. إلَّا أني شعرتُ بأن الموقف على بساطته يعكس أمورًا جوهرية، متعلِّقة باحترام الاختلاف، والاعتراف بقيمة التنوع وفهم الثقافات، والتي ينبغي أن يحرص الآباء والمربُّون على غرسها لدى الأطفال مبكرًا.
عادت بي الذاكرة إلى حين كنتُ في مثل سن أولئك الأطفال. كنَّا نتشاجر أنا ورفيقاتي في المدرسة حول أيّ لهجاتنا أصحّ وأقرب للعربية السليمة. وإن أعجزتنا الحيلة في ذلك، تقول كلُّ واحدة منا بأن لهجتها هي أقرب للقرآن. أتذكَّر جيِّدًا كيف كان الموضوع يؤرِّقني، وكيف كنتُ أتمنَّى أحيانًا أن أكون بين أشخاص يشبهونني في لهجتهم وعاداتهم، فقط لاجتناب التوتر والصراع المحيط حول الاختلافات التي "تميِّز بعضنا عن بعض"، أو "تجعلنا أثرى وأجمل". وحين كبرنا بعض الشيء كان لديَّ صديقة في الفصل، تختلف عنّا في لهجتها بالكلية، لكنها كانت مقرَّبة منَّا وتعتزّ بهذا الاختلاف والتنوع عنا، وكانت صديقاتي يُشْعِرْنها بذلك أحيانًا بقصد أو بدون بقصد. كان الأمر مزعجًا بالنسبة إليَّ وكنت أشعر بها كثيرًا. لذلك، كنت بدافع الحب أتحدَّث أحيانًا بلهجتها، وحين تُكالمني عبر هاتف البيت، كنتُ أتعمَّد مخاطبة إخوتي بلهجتها لتفرح، وكانت تفرح، وأتذكَّر ذلك جيِّدًا.
لا أُنكر أني -في ذلك الوقت- كنتُ أغيِّر لهجتي أحيانًا؛ اعتقادًا منّي أن لهجتها هي أصحُّ وأسلم. وربما صديقاتي نسِينَ تلك المواقف وتجاوَزْنَها الآن، وربما لم تكن تَعنيهنَّ كثيرًا بالشكل الذي أتوقّعه، ولكنه بالنسبة إليَّ أثَّر فيّ جدًّا، وساهم في تكوين شخصيتي الحاليّة وصقلها؛ ما يجعلني دومًا أسعى لأن أكون في بيئة طبيعية ومختلفة ومتنوعة، وأن أتعرَّف إلى الأشخاص المحيطين بي "عبرهم"، دون أن أفرض عليهم أن يكونوا مثلي لأحبهم، ولا أن أُغرقهم في توقعاتي عنهم، بل أُجْرِي معهم حوارات بسيطة وعفوية نتشارك فيها، وتكون مُلهمة لي ولهم.
أخيرًا، شكراً من قلبي للأطفال المُلهمين الذين قابلتُهم، وتعلَّمتُ منهم ربما أكثر ممّا علَّمتُهم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.