هناك من يعيش ويموت في المكان نفسه، بين أهله(ها) وعشيرته(ها)، يَعرفه الجيران منذ الطفولة، يحدِّثه زملاء العمل بلهجة أمِّه، يخالط نفس الأسواق، ويشارك الناسَ في نفس الأشواق. لا أدري أَكانت هذه ميزة أم فرصة ضائعة! لعلَّ فيها نعمة الاستقرار، وما يرتبط بها من تَكافُل اجتماعي، ومحافَظة على تراث متوَطِّد في الأرض. هذا النوع من الناس، أمْرُه(ها) غالبًا واضح، وانتماءاته(ها) معروفة، فهو أو هي ينتمي إلى قريته(ها) أو قبيلته(ها)، ثم إلى قَوميّته(ها) أو بلده(ها)، ثم إلى إقليمه(ها) الأوسع، وهكذا دواليك. والأمر نفسه من الناحية الدينية. فهناك الجماعة القريبة، والمَذهب أو المدرسة الدينية، والدِّين، والإنسانية... ولكن الإنسانية تبقى غالبًا فرضيَّة نظرية، من دون لقاء فعليّ بين المختلِفِين.
هناك من "ساح" في الأرض، طوعًا أو كرهًا، كما تسيح مياه الأنهار، فتَجري حتى تَبلغ البحر أو المحيط، أو تتبخَّر في الجو وتختفي. في هذه الحالة، تتشابك الهُويّات وتختلط، فيحتاج الإنسان إلى جهد خاصّ لكي يُصالح هُويّاته(ها) المتداخلة. ربما يخرج بهُويّة مركَّبة، متناقضة أو متناغمة، حسب قدرته(ها) على التوليف. وقد تنفتح فُرجةٌ للفردانية والتميّز الشخصي. ولهذا الانفتاح على العالم والتعدُّدية، مكاسب كبيرة وتحدِّيَات خطيرة، عِلمًا أنّ العَولمة باتت تغزو القرية النائية. فإنْ لم يذهب المرءُ إلى زيارة العالَم، أتَى العالَم إليه! في هذه الحالة، يصبح من الصعب رسم دوائر الانتماء بنفس الدِّقَّة المعهودة. فقد يلجأ الشخص العاجز عن تحقيق التوازن، إلى التَّقَوقع والتعصب والأصولية، لأنه مسكون(ة) بهاجس الخوف من الضياع، أو الموت المعنوي أو المادِّي. هي حالةٌ من عدم الأمن، يَسْهل أن "تُستثمر" سياسيًّا، فيُنفخ في نارها، لتتأجج وتلتهب وتحرق ما حولها. والأمر نفسه بالنسبة إلى من لم يهاجر، بل وجَد عالَم قريته(ها) يتغيّر جذريًّا.
يَصعب -بشكل عامّ- تحديد دوائر الانتماء ودرجات الأُخوّة، بطريقة هيكليّة تراتُبيّة هندسية. ولا أفهم شخصيًّا أن تكُون أخوَّةٌ من الدرجة الأولى، وأخرى من الدرجة الثانية، وكأنها محاولة لتبرير التمييز والعنصرية بِاسْم الأخوَّة. فجِسمُ الجماعة يأبى التجانس التامّ، وللشخصية الإنسانية فرادتها، التي تسعى بشكل ما للتمرّد على الدوائر القدَرية الموروثة. فيُمكن للفرد أن يتفاهم -بل ويَشعر بنوع من الانتماء-، مع شخص لا ينتمي إلى نفس جماعته(ها)، أو ديانته(ها)، أو قوميّته(ها)، لتَوافُقات في الأذواق أو الأفكار. فالشخصية الإنسانية تأبى التعليب أو التنميط أو التبسيط. وكما توجد جماعات عابرة للجماعات، كذلك يتخلّل مُحبُّو السلام والحوار مختلفَ الأمم والأديان.
لعلَّ النبوَّة، في بعض أبعادها، هي تلك الاستثناءات التي خرجَت عن المعهود والموروث؛ لتُقدّم رؤية نقديّة جديدة وبديلة. فهي تَملك ما يكفي من الحرية والشجاعة ووضوح الرؤية، لكي تقول: "لا"، لبديهيّات وعادات، ظنَّ كثير من الناس أنها لا تزول. إنّ الروح النَّبويّة اليقِظَة الناقدة، مؤسِّسة لطريق جديدة، منفتحة على أفُق أوسع من جدران التقليد والمجتمع.
لا يوجد انتماءٌ صافٍ، ولا هُويّة صافية، مِثل "جِيناتنا". فالهُويّة بالضرورة مزيج من أصول متفرقة، لا تَخطر لنا على بال. هذا ما نراه في بعض التسجيلات، التي تُظهر علامات الدهشة الشديدة إلى حدّ البكاء، على وُجوه من يطّلعون على نتائج خارطة أصولهم الجينية. حينها، يُفاجأ العنصريُّ(ة) بأنه "ينتمي" إلى من يكره، ويكتشف الأصوليُّ(ة) قرابته(ها) ممَّن يعتبره كافرًا(ة) خارجًا(ة) عن الرحمة الإلهية. فالهُويّة بطبيعتها مركّبة، والعبقرية تَكمن في حسن التركيب وتناغمه، وأحيانًا في فرادة ذلك التركيب، مِثل فرادة بصمات الأصابع رغم تشابُهها الظاهري.
إنما يكُون الإبداع بالتفكير من خارج العلبة، وليست كلُّ بِدعة سيِّئة. فهناك أيضًا البِدعة الحسنة التي تؤسِّس للجديد. وأحيانًا يكُون "الاستقرار" حُلمًا لا يُطال، ما دام الإنسان في هذه الدنيا كـ"مسافر أو عابر سبيل". إن الاستقرار في الأحكام النهائية، يَحُول دون الحركة. ومِن دون قلَقِ البحث وشَوك الشك ومشقّة الشَّوق، لا يُفرد شراعٌ، ولا تُسحب مِرْساةٌ. ولا حرِّيّة من دون خروج من أرض العبودية، وعبور إلى أرض الحرية، وخوض مخاطر التِّيه في صحراء البحث. ففي نوع من الاستقرار، عبوديّةٌ للعادة وخضوع للرَّتابة. والسكينة تُصاحب مَن يسير في صحراء التِّيه، ولكنها سكينة متحركة وخَيمة متنقِّلة، وتابوت للعهد تُدفن فيه قيود التعلّق بالعجل، والحنين إلى بَصَل العبودية وثُومها.
الغريب ليس مَن لا وطن له ولا جذور، ولكنه مَن يسكن المستقبل بِحُلم أكبر من الحاضر، فـ"طُوبى للغُرَباء".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.