ثارت ضجَّةٌ في لبنان خلال الأيام الأخيرة، بسبب حفلة ستُقام في مهرجان مَحلِّيٍّ لفرقة لبنانيّة، اعتُبرتْ مثيرة للجدل. فقيل إنَّ التوجّهاتِ الشخصيّةَ لبعض أفراد الفِرقة، وبعضًا من كلمات أغانيهم، تتعارض مع القيم المسيحيّة والإنسانيّة، وإنَّ أحد المقالات التي شاركها مُغنيها على مواقع التواصل الاجتماعي، تضمُّ صورةً مهينةً للسيدة العذراء؛ ما يستوجب -برأي الرافضين/ات- منْعَ حفلة هذه الفرقة، حرصًا على الدّين والرعيّة، وعلى أفكار الشباب/الشابات وتوجهاتهم/هنّ. وفي إطار مُزايداتٍ تبدو شَعبويّة، بلَغ ردُّ الفعل على هذه الحفلة، حدَّ مطالَبة بعضهم بمنعها بالقوّة والعنف.
بعيدًا عن حفلة هذه الفرقة في حدّ ذاتها، ليست المطالبات بالمنع جديدةً على الساحة المحلِّيّة. فهي تأتي طَورًا ضدّ كِتاب، وتارةً ضد فيلم سينمائي أو عرْض مسرحيّ، تحت حُجج: صَون الآداب العامّة، ودرء الإهانة عن الأديان والرموز الدينيّة، وحفظ النَّشء الطالع من الأفكار الشيطانيّة، ونحوها. وكثيرًا ما تَنجح هذه المطالبات في الوصول إلى غايتها، فيُنفَّذ المنع، و"يُصان الشَّرف الرفيع من الأذى"!
جوانب كثيرة يمكن التوقُّف عندها في قضيةٍ مماثلة، منها: صعوبةُ تحديد ما هو أخلاقيّ، وما هو غير أخلاقيّ، والآداب العامّة وما "يَخدشها"، وتعريف إهانة الأديان ورموزها، والحريّات الشخصيّة والعامّة وحدودها. بل وقبْل كلِّ ذلك، تِبْيان حقيقة ما يُتَّهم به هذا الحفل أو ذاك الكتاب أو تلك المسرحيّة، وصحّة ذلك من عدمه.
جانبٌ آخر لا بد من التفكّر فيه، هو خطر طغيان "ديكتاتوريّة الأغلبيّة". فعدمُ موافقة غالبيّة معيَّنة: دينيّة أو طائفيّة أو مناطقيّة... إلخ، على مضمون عملٍ فنِّيٍّ أو أدبيّ أو ثقافيٍّ ما، لا يمنحها حقَّ منع هذا العمل بطريقة تِلقائيّة. فتُذكِّر ديكتاتوريّةُ الأغلبيّة هذه، بما كتبه بعض آباء الكنيسة عن عصور اضطهاد المسيحيّة الأولى على أيدي الرُّومانيّين، وكيف جرى تسويق معلوماتٍ خاطئة عن المسيحيّين، كتآمُرهم على الدولة، وارتكابهم ما يخالف قوانين ذلك العصر في اجتماعاتٍ سرّيّة، لتبرير اضطهادهم وقتْلِهم ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم. ويصير السؤال هنا مشروعًا، بل مطروحًا: "كيف يمْكن لِمَن عَرف في تاريخه الاضطهاد المُميت، بسبب مخالفته التيّار السائد حينها، أن يتحوَّل بِدَوره مُضطَهِدًا للآخر، بِناءً على آرائه وطروحاته ومواقفه؟".
لا شك أن الاعتراض الحضاري، البعيد عن العنف وشيطنة الآخر واتِّهامه بما يجانب الحقيقة، أمرٌ جيِّد، وحقٌّ لا بد أن يكون مضمونًا في كلِّ وقت. ولكنَّ الدعوةَ إلى العنف والحضَّ عليه، لقمع الأفكار والآراء المخالفة، يُفْقد الاعتراض قيمته، ويُفرغه من أيِّ مضمون جِدّي يمكن البناء عليه.
اللَّافت من جهة أخرى، ما يبدو وكأنه ترْكُ الأمر على نحو مقصود، للشَّعبويّة وخطابات الكراهيَة، وتَدخُّلات جهات ليست ذات صلاحيّة أو أهليّة، قد يكون لها نفوذ لدى السلطة القضائيّة والأجهزة الأمنيّة، لِتَفرض على المواطنين/ات قرارتها، بمنع هذا العمل الفنِّيّ أو قبول ذاك. ومع الاعتراف -على هامش الحديث- بالاحترام، الذي تَحظى به هذه الجهات من قِبَل مؤمنين كثيرين/ات، يبقى تَحوُّل سلطة هذه الجهات -ولو غير المباشرة- من الحيّز الديني الخاص، إلى الحيّز المدني الوطني العامّ، أمرًا يبدو خطيرًا، ولو بدا -بسبب تَكرار ممارسته- مُعتادًا.
في المقابل، لو افترضنا أن موسيقا هذه الفرقة وأغانيها، أو مضمون ذاك الفيلم، أو رواية تلك الأديبة، تحوي ما لا يقبله إيماننا أو ضميرنا، فهل نعتقد فعلًا أن المنْع مُجْدٍ؟ يبدو من السذاجة الظنُّ، أنَّ منْع أمرٍ ما في عصر الاتِّصالات هذا، هو أمر ناجع، فضْلًا عن أحقِّيّته. ويجوز هنا تكرار الحجّة المستعمَلة في حالاتٍ مماثلة، والقائلة إنَّ التهجُّمَ على الفِرقة، هو من أعظم أفعال الدعاية والترويج لها، ومنْع حفْلِها لن يمنع انتشار نتاجها على مواقع الإنترنت، بل سيجعل سِيرتها على كلِّ لسان.
قد يسأل بعضهم: ألا يَخدش هذه الضمائرَ الحيّة، أو يُهين الرموزَ الدينيّة -بعُرف أصحابها-: أن يكون الموت مصير الفقراء على أبواب المستشفيات، أو أن يُقصف المدنيُّون/ات على مسافة بضع عشرات الكيلومترات، ويُنَكَّل باللاجئين الهاربين/ات من الموت، أو أن تكون أقساط المدارس الدينيّة أكثر ممّا يمكن لأولياء الأمور أن يدفعوه، أو أن تُنافِس مَواكبُ قياداتٍ روحيّةٍ، مَواكبَ زعاماتٍ سياسيّةٍ عُرف عنها الفساد؟!
في عالم اليوم، كثيرون/ات هم أصحاب التوجُّهات المخالفة لتوجُّهك، والمؤمنون/ات بأمور لا تؤْمن أنت بها، ومنهم الملحدون مثلًا. فعدمُ الاعتراف بحقِّهم في الوجود، أو محاولة قمعهم، لن يَحميَا إيمانك ومعتقداتك.
إنّ الآراء والمعتقدات المخالفة لرأيك ومعتقداتك، بمختلف وسائل التعبير عنها، كثيرةٌ وكثيرةٌ جدًّا. وعليه، من المفيد أن تترسخ القناعة بعدم القدرة على إلغائها، بل وعدم جواز التفكير في إلغائها، ما دامت -على خلافك معها- ضمْن إطار الحرّيّات الشخصيّة، وبعيدةً عن ممارسة فرْض مضمونها على أولئك غير المقتنعين/ات بها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.