غالبًا، لا يَتصوَّر المتديّن أن الإنسان يمكن أن يكُون له نموذجه المستقلّ في الإيمان، عن الإطار الديني السائد في مجتمعه؛ وذلك لأن بُنْية الأديان عمومًا تكُون في جماعات، وهو أمرٌ تَفرضه ضرورة نشأةِ الدِّين، ومواجهتِه للمعتقدات الأخرى. فكلُّ دِين ناشئ، يواجه أديانًا قائمة على بُنْية راسخة في المجتمع، يجعل من المتعسِّر أن يمارِس أتباعه معتقداتهم فرديًّا، دون أن يشكّلوا هُم أيضًا هيكلًا جمْعيًّا، يَفرض قوَّته لمواجهة من يحاول وأْدَه. وهذا دأَبٌ عامٌّ في الأديان.
بَيْد أن الحياة تُوجِد أيضًا إفرازاتِها الفردية، بحيث يَفهم بعضهم الحياة مستقلًّا. وبذلك، يمارسها بحُرِّيّة أوسعُ من غيره، وأيضًا قد يتديّن بانفراد عن محيطه. والدين ذاتُه -مع تعاقُب الأيام- يصبح غير قادر على الهيمنة على كافة أفراد المجتمع، سواءٌ بسبب تَكلُّس منظومته المعرفيّة، أو ظهور تناقضاتها أمام التفكير الحُرّ، أو لِكَون أشواق الإنسان الإيمانية، أكبر بكثير من منظومة الدين الاجتماعية.
بمرور الزمن، يَكثر الأفراد الذين يرغبون في الانعتاق من منظومة التدين السائدة، مع رغبتهم في الإيمان ذاته، إمّا وَفْق مبادئ الدين السائد، أو وفْق مُطلَق روح الإيمان. وهذا قد واجَه اليهودية والمسيحية، وهو الآن يواجه الإسلام. هذه الظاهرة، أجبرت اليهودية أن تَعتبر نفسها هُويّة أكثر منها دينًا. فأصبح في إمكان اليهودي أن يكُون له معتقده الخاص، دون أن يَفقد هُويّته اليهودية، في حين كان الوضع بالنسبة إلى المسيحيّ أكثر دراماتيكية ("من هو اليهودي" لعبد الوهاب المسيري)، حيث إن الشدة التي تبنَّتها الكنيسة في العصور الوسطى، أنتجت فلاسفة كادوا يُطيحون بها؛ ما أجبرها على الاعتراف بمُطلَق الإيمان، سواءٌ انتسب المتدين إلى الكنيسة المسيحية، أو لم ينتسب إليها ("الدين والعلمانية في سياق تاريخي" لعزمي بشارة).
أما الإسلام، فقد اعترف من الأساس بالأديان الأخرى؛ بشرط الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. ثم إنه –مع تَشكّله على أساس جمْعي منذ البداية، لأسباب عديدة منها مواجهة الأديان التي وقفت ضده–، أقام معتقده على المسؤولية الفردية. يقول الله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. ففي الإيمان لا توجد مسؤولية جماعية أمام الله. ولذلك، اعترف الإسلام بالفرد المؤمن، وإن كان مختلفًا عن غيره. بل الإسلام احتفى بالحنيفية، وتَسمّى بها، واعتَبر أن أوّل من سار عليها هو النبي إبراهيم (أبو الأنبياء)، فكان وحْده أُمَّة.
الحنيفية هي الإيمان الملتزم بروح الدين ومبادئه العليا، أيِ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وهو الذي يَخرج عن إطار تَديُّن الجماعة السائد، ما دام تَديُّنها "منحرفًا" عن هذه الأصول. ومَن يتتبَّعِ القرآن، فسيجد نماذج من المؤمنين غير الداخلين في الجماعة المؤمنة، التي كوّنها النبي محمد في المدينة. ومن ذلك قول الله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِن}. فهذا المؤمن لم يكن مِن الجماعة التي اتبعت الرسول في المدينة؛ وإنما ظلَّ يمارس إيمانه الفردي في مجتمع آخر.
بَيْد أن هذا التأصيل القرآني للفردية الإيمانية، خَفَتَ في النسق العامّ لتَشكُّل الأديان في ظلِّ الجماعة، وحلَّ محلَّه لدى المسلمين دين "الفِرقة الناجية"، التي لم تصادر إيمان الفرد المستقلِّ عنها فحسب؛ وإنما صادرت أيضًا أيَّ تَديُّن جمْعي آخر يختلف عنها. ولذلك، لا يكاد -إلى عهد قريب- يُتَصَوَّر أنه يمكن للمسلم ألّا يكُون له مذهب معيَّن. فكان أوّل ما يواجهك به المسلم عادةً عندما يلقاك: "ما مذهبك؟". فإن قلت له: "مسلم"، يردُّ عليك تِلْقائيًّا: "أعْرِف أنك مسلم. لكن، ما مذهبك؟"!
أما الآن، فإن المسلمين يعيشون -برأيي- مرحلة الانعتاق من المنظومات الفقهية السائدة، وهذا سيجعل الأفراد يبحثون عن تصوُّر جديد للإيمان. وهو ليس بالضرورة تصوُّرًا قائمًا على نظام الجماعة، بل أكثرُه سيكُون إيمانًا فرديًّا، لا سيَّما في ظلِّ النقد المتواصل لمكوِّنات المنظومات المذهبية القائمة ومُنتَجاتها، التي أصبحت لا تصمد أمام التحولات الكبرى التي تعيشها البشرية. إن الإنسان لِكَونه كائنًا متديِّنًا؛ لن يتخلَّى عن الإيمان. ولأن الإسلام يقوم على مبادئ فِطْريّة من الإيمان والأخلاق؛ فإنه سيظلُّ قادرًا على رفد أرواح المؤمنين. لكن التحول عن المنظومات الفقهية بصيغتها الجمْعية، قد قطع شَوطه لدى المسلمين، وسيحلُّ محلَّه إيمان، يختلف في كثير من تصوُّراته وممارساته عن التدين التقليدي. ولذلك، ينبغي للفقهاء أن يستوعبوا هذه المرحلة من دين الفرد، القائم على روح الإسلام، وليس على تقاليد الجماعة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.