يأتي رمضان هذه السَّنة متزامنًا مع أزمة صحية عالمية عاصفة (انتشار وباء الكوفيد‑19)، في ظروف استثنائية، غيَّرَت بشكل غير مسبوق طُقوسيَّةَ هذا الشهر ووظائفَه ونُظُمه. وقد أثارت هذه الأزمة تساؤلات حول التغيُّرات التي ستطرأ على الحياة العامة المألوفة؛ ما دفَع بعضَهم إلى الحديث في إمكانية إلغاء فريضة الصوم في حدِّ ذاتها، وهو ما رفضته كافة المراجع الدينية. في المقابل، تحوَّلَت محنة الكورونا، وما أثارته من تَبِعات اقتصادية واجتماعية ونفسية، إلى فرصة للمراجعة والتأمل واستخلاص الدروس، ولمُساءلة القناعات، وإعادة النظر في المسلَّمات.
نجح هذ الوباء في إعادة تشكيل الوعي الديني والدنيوي، بالنسبة إلى قضيَّتَين أساسيَّتَين، هما: وَحْدة البشرية ومصيرها المشترك، ودَور الوساطات الدينية التقليدية. أيضًا أعاد الوباء إلى الأذهان، فكرة وَحْدة الإنسانية وقدَرِها المشترك. فالبشرية اليوم -وهي تُواجِه خطرًا واحدًا يهدِّدها- تَسِير بخُطًى متسارعة، نحو التضامن والتشابك والتوحُّد. وهو ما يلغي موضوعيًّا اختيارات الانغلاق والانطواء على الذات، ويَدفعنا في هذا السياق إلى تجاوُز اختلافاتنا الدينية والهُوَوِيَّة.
برأيي، مِن الضروري اليوم أنْ يتلاءم الخطاب الديني مع مستلزَمات هذه المرحلة وتَحدِّيَاتها، ويلبِّي حاجياتها، وينتقل من النَّرجِسية الدينية إلى الغَيريّة، ومِن المطلَق إلى النِّسبية والتاريخية؛ وذلك لإعادة صياغة شعور الأجيال القادمة ولاشُعورِها.
لعلَّنا نتذكر في هذا الشهر الكريم، أنَّه مهْما اختلفت الديانات والمعتقدات والطقوس والشعائر، يبقى الجوهر على درجة كبيرة من التشابه برأيي. ولنا في شعيرة الصَّوم عبْر التاريخ أنموذج. فهي شعِيرة دينية مهمَّة في كثير من الديانات والمعتقدات، وتختلف قواعدها ونواميسها من ديانة إلى أخرى، ومن معتقد إلى آخَر، لكنَّ أهدافها وغائيَّاتها تتشابه فيما بينها. إنَّ الصيام شعيرة تعبُّدية وفلسفة روحانية، ارتبطت بالإنسان المؤمن(ة) الذي يسعى إلى الارتقاء والتسامي. فهو ليس حكرًا على الديانات الإبراهيمية، بل نجده في معظم الحضارات البشرية، وقد ارتبط تاريخيًّا بِمَقولات السعي إلى رضى الآلهة، والتهذيب والتطهير النفسي، والوقاية والعلاج الجسدي. وقد سجَّل القرآن الكريم هذا المُعطَى التاريخي: {يا أيها الذين آمنوا كتبَ عليكم الصّيام كما كُتِب على الذين مِن قبلكُم لعلكم تتَّقون} [البقرة: 183].
الصوم إذن هو من المتغيِّرات الأنثروبولوجية، التي فيها تتنوَّع الأشكال وتتعدد، وتتوحَّد هيكلة النفس البشرية. فمنذ زمن الديانات الهندوسية القديمة، التي تعتمد الصوم تِقْنِيّةً للصفاء الروحي والتركيز العقلي، إلى الديانة الفرعونية، ثم إلى فرق الصابئة، كانت شعيرة الصيام ثابتة. وقد أكَّدت الدياناتُ الإبراهيمية هذا المسار. فالصوم مثلًا في اليهودية شعيرة هامة، حيث يُعتبر صوم يوم الغفران (أو كيبور) من أقدس الأعمال والأعياد. وفي المسيحية حُدِّدَت عدة مَوانع ونَواهٍ غذائية، ومواقيت للصيام. أمّا في الإسلام، فيُعَدُّ الصوم فريضة واجبة، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة.
من جهة أخرى، يأتي رمضان هذه السَّنة متزامنًا مع تداعيات وباء الكورونا، مِن حظْرٍ صحي وغلْقٍ للمساجد، فاقِدًا لأهمِّ مميزاته وخصوصياته، مِثل: الاجتماعات العائلية، وصلاة التراويح، ومظاهر التعبد الجماعية، وموائد الرحمان، وأَسْفار العُمْرة. ويبدو أنَّ الصيام هذا العام، يُجسِّد تجربة روحية خاصة وفريدة، تَفتح لنا آفاقًا أرْحَب في أبعاد الحياة الوجودية والروحية. ففي قلب هذه الأزمة، ينتبه المؤمن(ة) لضرورة إعادة ترتيب علاقته بالله سبحانه وتعالى.
لقد حدَّت أزمةُ الكورونا من الوساطات بين العبد وخالقه، وزعزعَت مشروعيَّتها، إذ تَبيَّن أنَّ إجراءات غلق المنابر ومنع الحلقات الدينية وتغييب الدعاة ورجال الدين، لم تَحُدّ من الإيمان، ولم تُلْغِ التدين، بل عمَّقَت التواصل المباشر بين الله والإنسان. ثم إنَّ المؤمن(ة) يعيش رمضان هذه السَّنة، عبْر تجربة فردية جديدة، تَدعم البُعد الروحي، وتُقوِّم المَسار بعيدًا عن الخضوع المفروض، والأشكال الطُّقُوسية الجماعية والمظهرية المألوفة؛ ليرتقي إلى الإرادة الذاتية والقناعة الصادقة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.