لديّ مشكلة مع الموت. الموتُ حين يأتي خُلْسةً ليختطف أطفالًا، لا أستطيع تقَبُّلَه ولا الكتابة عنه بحياد. وربما لن يُصدِّقني القرّاء، وأنا أكتب منذ عقْدَين من الزمن عن ملايين الأطفال، الذين ماتوا في النزاعات، أو في عُرض البحر، أو بسبب الجوع، أو في الشوارع التي تحوَّلت إلى بيوت لهم. وقد يَحضُر موتُ الأطفال في المستشفيات أيضًا، حيث يَجدر بأن يختفي، إلّا أنه يَهبّ فجأة ليخطف رضيعًا من حضن أمه. لا أستطيع أن أتقبَّل الموت حين يخطف طفلًا، ولو قيل عنه: "ذهب شهيدًا ومَلاكًا".
لديّ مشكلة في أن أكون "حياديَّة"، وأنا أنقل خبر وفاة 12 رضيعًا في مَشفًى عموميٍّ في تونس، نهاية الأسبوع الماضي. في يوم واحد، ثَكِلَت 12 أمًّا أولادَهنّ. بعضُهنّ أنجَبْن بعد انتظار سنوات في صبر مرير، أو بعد علاج مؤلم أو غالٍ. لم يَهْنأنَ برؤية مواليدهنّ إلّا بِضْع ساعات. لقد هزَّت الحادثةُ المجتمعَ التونسي، حيث بلغ الفساد والفوضى مَداهُما، وعشَّشا في عدة مؤسسات في الدولة. وما فاجعة وفاة المواليد بسبب "تَعفُّن في مَصْل"، أو غرفة غير معقَّمة جرت فيها عملية تجهيز المَصْل، إلَّا دليلٌ جديد على بشاعة الاستهتار ونتائجه.
لا أعرف كيف أكتم حزني المعجون بالغضب، وأنا أقرأ تفاصيل البيانات، وأشاهد تقارير المراسلين. لديَّ مشكلة في تَعوُّد التهوُّر، الذي يتحوَّل إلى أداة قتل مواليد. ثم إنه مِن الظُّلم أن نَعُود إلى بيوتنا بعد تلك الفاجعة، ونتحدث بِيوم عملٍ شاقّ، في حين تتسلّم 12 أسرة مواليدها في عُلَب كرتونيّة، وذلك في مشهد آخر يوضح لنا بشاعة تَبلُّد المشاعر، والتعامل مع الموت كما لو كان زجاجة نفد محتواها، إذْ سلَّمَت إدارةُ المَشفى التونسي جثامينَ المواليد، في "كَراتين" صغيرة. وشاهَدْنا بعض الآباء المفجوعين يفتحون الكرتونة أمام الكاميرا، ليكتشفوا مولودًا ملفوفًا في داخلها، بعد أن قَضى نَحْبَه في المشفى.
لديَّ مشكلة في ألّا أتقمَّص -ولو لحظة- حياة أمٍّ فقدَت مولودها، لا بسبب عُسر الولادة، بل بسبب التقصير. أُمٌّ ستَطلب منها الدولة أن تُواصل حياتها، كأنَّ شيئًا لم يكن. وربَّما سينصحها بعض الأقارب بأن تُعاود الإنجاب، وكأنَّ القصة تُمحى بحَمْل آخر. هذا لو سلَّمنا بأنها قادرة فعلًا على الحمل.
لديَّ مشكلة كبيرة في أن أصحو على نبأِ الموت في هذا الوطن، وكأنه خبر بسيط لا يعني سوى 12 أسرة، وفي أن أتجاهل تلك التعليقات، التي قالت إن الموت كان رحيمًا بالضحايا، حين غيَّبها قبل تَكبُّد مشقَّة الحياة العسيرة في تونس. تبدو تلك التعليقات مستهترة، مثل الإهمال الذي أوْدَى بحياة الرُّضَّع. فتسطيح المشاعر وتفريغ الفاجعة من جوهرها، يسيران معًا، ويزيدان المشهد سوداويّة.
لستُ أُمًّا لِأَشعر بما شعرَت به هؤلاء الأمَّهات، ولا نحتاج إلى أن نكون كذلك لِنَفهم ونُقدِّر حجم المعاناة. لكني أُدرك تمامًا معنى تلك العلاقة بين أُمٍّ وطفلها، وأب وطفله. لقد احتضنتُ أطفالًا لم يكونوا لي، أطفالَ أصدقائي وأقاربي. رأيتُ بعضهم يولَد، ورأيت دموع أمهاتهم، ولحظة العناق الأولى والشَّمَّة الأولى، وكيف نُمسك بتلك اليد المتناهية الصغر في كفِّنا، ونرفعها إلى الثغر لتقبيلها، ونقول لها بين دمعتين: "مرحبا ماما"... لحظات لا يمكن أن تُمحى.
مراقبةُ أوّل خطوة لقدَمَين صغيرتَين تَخطُوَان نحوك، تتعثَّران، ويوشك الطفل أن يقع، وأنت تُوثِّق كلَّ ذلك بتأثُّر بالغ. شيءٌ ما يهزُّك من الداخل، وأنت ترى طفلًا مُتناهي الصِّغر، يبتسم لك. فما بالُك لو كان طفلك؟! الأمومة تنتعل أحذية مَن لم يُنْجبن، تمشي بهن وهن يتحسَّسن بطونهنَّ الخاوية، كلَّما بكى رضيع في الحديقة العامة. أقولها لنفسي كلّما رأيتُ أُمًّا مع طفلها، أو سمعتُ أُمًّا تتكلّم عن طفلها. القصةُ ليست غريزة مثلما يحاول العِلْم أن يُقنعنا بها، ولا تَشابُهًا بين الثَّدْيِيّات مثلما تقول الأطروحة. قد لا نُنجب، ولكنْ لدينا محبة جارفة للأطفال، ولأطفال الآخرين.
قبل محاسبة المسؤولين عن جريمة مَشفى الرابطة في تونس، يجب على المجموعة الوطنية التضامن مع الأمهات الاثنتَي عشرة، لا من باب الواجب الوطني فحسْب، بل لأنه واجب أخلاقي وإنساني، يستوجب إعادةَ ترتيب القِيَم في مجتمعنا، وإعلاء قيمة الحياة فيه، بعد أن تغلغلت ثقافة الموت وتَبسَّطَت، بل تَمجَّدَت أحيانًا بما يشبه اللامبالاة المُفْزِعة.
الملائكة (الرُّضَّع)، يترجَّلون بعد ساعات فقط من وصولهم إلى عالمنا. كم كان رحيلهم قاسيًا، كاشفًا بَشاعة عدم التزام بعضهم المهنيَّةَ والجِدِّيَّة، رَغْم التَشدُّق بالإنسانية!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.