لا يمكننا القول: "إن العشائر تهدِّد السِّلم المجتمعي"؛ لأننا لا نتفق مع المُطلق ولا التعميم. ثم إن العشائر منظومة اجتماعية قيِّمة، تفُوق إيجابيّاتُها سلبياتِها، لكن الأخيرة هي التي تَظهر بشكل يوميّ عشرات المرات أو ربما المئات.
تتبنَّى بعض العشائر أو أفراد فيها، سلوكيات "إرهابية"، في التعامل مع القضايا التي تخصُّهم أثناء أوقات التوتُّر مع عشائر أخرى. فيَحملون السلاح ويُطلقون النيران بطريقة عشوائية، على أيٍّ مِمَّن يعتبرونه خصمًا لهم، وكأننا أمام "داعش" جديد.
في الوقت الذي يحتاج فيه المُواطن العراقي إلى ما يُساعده على استِتْباب الأمن، والعيش بعيدًا عن كلِّ ما يُمكنه تهديد حياتِه، أو حالةِ السِّلم التي يُفترض أن يعيشها؛ تَتفاقم بعض السلوكيات العشائرية، التي تُهدِّد هذا السِّلم وتُقوِّض القانون. فمحاولات العشيرة الكبيرة لتقويض القانون لم تنتَهِ، لكنها ما زالت تنتصر على الدولة. هي معادلة معروفة، تَقْوَى العشائر كلَّما ضعفت الدولة، وتَضعف كلَّما قوِيَت الدولة. لذا، نراها اليوم في أَوْج عطائها، وفي مرحلة استثمار كلِّ قوَّتها السلبية، للعلوِّ أكثر على الدولة.
تعيش مناطق في العراق، خاصة الجنوبية منها، حياةً مِن الرُّعب في أغلب الأحيان. لا يوجد "داعش" هناك، ولا إرهابيُّون بمسمَّيات أخرى، ولا حتى صِدامات بين جماعات مسلَّحة تابعة لأحزاب سياسية، بل هناك عشائر تتقاتل فيما بينها، لأسباب قد لا تكون كلُّها تافهة. فتُظهر مقاطع فيديو وأخبار قادمة من محافظات الجنوب العراقي، وتحديدًا من محافظتَي البصرة وميسان، معاركَ شرسة وكبيرة. والذي لا يَعرف الحقيقة، سيقول بأن هذا الاقتتال هو بين "داعش" ومجموعة من المواطنين. لكنه في الحقيقة، قد يكُون نزاعًا بين عشيرتَين حول شيء بسيط، أو حادث سَيْر، أو حتى ربما بسبب حيوانات نفقَت. نعم، حيوانات قد تعُود مُلكيّتها لإحدى العشيرتَين.
يَسقط في هذه النزاعات العشراتُ من الضحايا، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أُجبروا على الانصياع لأمر شيخ العشيرة، أو بسبب تعصُّبهم العشائري، أو عدم اعترافهم بالقانون. هناك نسوة وفتيات يذهَبْن ضحية هذه الصراعات، عندما تأخذ العشيرةُ "صاحبةُ الحقّ"، فتاةً من العشيرة الأخرى كفَصْل (أيْ تعويض)، لِتعيش تحت رحمة أحد رجالات تلك العشيرة، وإن كانت زوجته بأوراق ثبوتية.
إضافة إلى النزاعات، هناك ما يُعرف بـ"دكة"، وهي آليّة عشائرية يُطلق فيها الرصاص الحيّ على منزل الخصم الآخر، أو على من يَعتقدون أنه المُخطئ. وهذه حالة تتسبَّب بخَلْق حالة من الرُّعب لدى العوائل، خاصة الأطفال. فهي مصنَّفة بـ"الإرهاب" وَفْق قانون مكافحة الإرهاب العراقي سنة 2005، حيث تنصُّ الفقرة الأولى من المادة الثانية للقانون على أن: "العنف أو التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو تَعرُّض حياتهم وحرياتهم وأمنهم للخطر، وتعريض أموالهم وممتلكاتهم للتلف، أيًّا كانت بواعثه وأغراضه، يقع تنفيذًا لمشروع إرهابي منظَّم فردي أو جماعي". وتنصُّ الفقرة الرابعة من ذات المادة على أن: "الإرهاب هو العمل بالعنف والتهديد، على إثارة فتنة طائفية أو حرب أهلية او اقتتال طائفي، وذلك بتسليح المواطنين أو حملهم على تسليح بعضهم بعضًا، وبالتحريض أو التمويل".
قبل أيام، اتَّخذ مجلس القضاء الأعلى في العراق خطوة إيجابية، عندما تَعامل مع "الدكة" العشائرية وفقًا لأحكام قانون مكافحة الإرهاب. لكن، ورغم هذا الإجراء القضائي، لم يَنتَهِ تَمادي السلوك العشائري السلبي لدى بعض العشائر. فبَعد ساعات على موقف مجلس القضاء، حدثت بعض "الدكات" في مناطق من جنوب العراق. إن العامل الأساسي في تَمادي هذا السلوك، هو ضعف الدولة. فمنذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وانهيار مؤسسات الدولة وغياب القانون؛ برزت في المقابل قوّتان هما: العشيرة والجماعات المسلحة، اللَّتان تعملان -حتى الآن- على إبقاء الدولة ضعيفة.
نستطيع القول وبكل صراحة: قد يكون في بعض العشائر سلوكيات، لا تقلُّ خطورتها ونتائجها السلبية على المجتمع، عن تلك التي كان يقوم بها تنظيم "داعش"، أو أيُّ عصابة أخرى. وهذه في حدِّ ذاتها، تَبعث على القلق الكبير حول مستقبل العراقيِّين، أو مستقبل الأجيال التي تَنشأ في تلك العشائر، وهي ترى أمامها السلاح سبيلًا وحيدًا إلى "أخذ" الحقوق.
إنْ لم يكن للدولة موقفٌ صريح من هذه السلوكيات، فإننا لن نكون خلال العقدَين المُقبِلَين في حاجة إلى المَحاكم والقضاء، ولن يكون رَجل الأمن سوى حلقة ضعيفة في سلسلة خراب، تتألّف من جماعات مسلَّحة وميليشيات، وجماعات دينية، وعشائر.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.