منذ ثلاثة أسابيع قامت فتاة تونسية بتفجير نفسها خلال عملية انتحارية وسط العاصمة التونسية؛ ما خلَّف إصابة عشرين شخصًا. كانت "مُنَى" أول انتحارية في تونس، فتاة متعلمة. لكن اليأس تَسرَّب إلى قلبها بعد أن عجزت عن العثور على عمل، وتحدثت الأنباء بِكونها تعرَّضت لتجنيد سريع، من طرف أحد التنظيمات الإرهابية. وقد صرَّح والدها للصحافة بحسرة وألم بأنها كانت: "مثالية ووَرْدة الأسرة وألطف أفرادها". وهنا سؤال يلحَّ عليَّ: كيف مُسخت هذه البراءة جنونًا قاتلًا؟
لا شك في أن تاريخ القتل الانتحاري قديم، ولم تكن له دومًا دلالات أو أهداف دينية. فقد كان أحيانًا دفاعًا عن قيمة الشرف، وأحيانًا أخرى كانت العمليات الانتحارية وسيلة إلى التحرير السياسي. لكن، عندما يصبح القتل الانتحاري تعبيرًا عن مشروع ديني، فإنه يتخذ دلالة خاصة مرتبطة بالأفق الأخروي، دلالة تنبَنِي على حالة من التعصب الديني، وتمنح "الاستشهادي" الشعور بالتميُّز عن الآخرين لامتلاكه الحقيقة المطلقة؛ ما يَخلق لديه نظرة حِقد وازدراء تجاه الآخرين. عندها يقرر هذا الشخص أن حياة ضحاياه لم تَعُد لها أيّة أهمية. وغالبًا ما يعتقد الانتحاري، أنه سيشهد خلاصه من معاناته في العالم عندما يفوز بالجنة الموعودة.
إن الارتباط بين صناعة الموت وصناعة فكرة الجنة، متجذِّر في التاريخ. فقد كان "حسن الصباح" زعيم طائفة الحشَّاشين الإسماعيلية، يدرِّب أتباعه (الفِدائيِّين) على الطاعة العمياء، وتنفيذ عمليات الاغتيال لخصومهم. وتُورد بعض المراجع التاريخية أنه لم يَكتفِ بوعدهم بالجنة، بل صَنع في قلعة "أَلَمَوت" جنة اصطناعية مَلْأَى بالملذات، يضع فيها أتباعه في حالة تخدير. وعندما يَصحون يبدأون بالتبشير بالجنة التي عاشوها بحواسِّهم، معتقدين أنها كانت حُلمًا وبُشرى في انتظارهم. هكذا، أصبحت التضحية بالنفس من أجل القضية "المقدَّسة"، طريقًا إلى دخول الجنة.
لم تتغير الأمور كثيرًا في العالم الإسلامي، إذ لا تزال صناعة الجنة وإيهام البُسَطاء واليائسين بالتحكم في مفاتيحها، تمنح الأشخاص سلطة لا مثيل لها، وقدرة هائلة على إنتاج العنف. في السنوات الأخيرة، شهدنا مئات التفجيرات الانتحارية التي خلَّفت آلاف القتلى من الأبرياء، من كلِّ الديانات والطوائف. ويحاول "الجهل المقدَّس" تبرير همجيّته انطلاقًا من تمييز الفقهاء، بين "المجاهد الانغماسي" الذي يقتل الأعداء من الكفار والمرتدين ويستشهد "حبًّا بالله وجنَّته"، والمنتحر الذي يَقتل نفسه كُفرًا ويأسًا من رحمة الله.
لا شك أيضًا في أن الفعل الإرهابي الانتحاري، نتيجة عوامل نفسية واجتماعية كثيرة، كاليأس والجهل. لكن الفكرة الدينية تُصبح هي المحرِّك الوجداني للفعل. فيعتنق الانتحاري عقيدة الانتماء إلى جماعة متميِّزة "ناجية"، ثم ينتقل إلى عقيدة التكفير وقتل النفس التي تَفقد حُرمتها.
كيف يمكن لإنسان ما أن يتصور أنه يمكن أن يعيش في نعيم الجنة، على حساب جحيم الآخرين ومعاناتهم، وقد قال الله تعالى {أَنَّهُ مَن قتل نَفْسًا بِغير نَفْسٍ أو فَسادٍ في الأرض فكأنَّما قَتَل الناسَ جميعًا}؟ وكيف يستطيع الانتحاري أن يتغاضى عن دموع الأطفال الميتَّمين، والنساء الأرامل والأمهات الثكلى، كي يَدخل الجنة ويحقِّق نزوته الروحية أو الجسدية؟ ألا يَعْلم أن الله -كما يفرح لتوبتنا- يشاركنا في أحزاننا ويتألَّم لآلامنا؟
بِصِفَتي مُسْلمًا، فإن ذلك يعني أن الفكر الديني الإسلامي، يجب أن يعيد بناء فلسفة الجنة وعقيدتها، من خلال التفكير في العلاقة بين فكرة الجنة، وأخلاقيات التعايش الأرضي. قد تكون الجنة في مكان بعيد جدًّا، لكني أعتقد أنها يجب أن تتحقق أوّلًا فينا، وفي حاضرنا، وفي العالم الذي قد نستطيع صُنعه من خلال الخير والتسامح. فنَبْني مَعبرًا إنسانيًّا بين حياتنا العابرة هنا، وحياة الخلود .
أعتقد أن الطريق الحقيقي والوحيد إلى الجنة هو الحب، وأن تَرجع روح المؤمن إلى ربها "راضية مَرضِيَّة"، بعد أن أحبَّت الخلق كلَّهم وسعَت لخيرهم. لذا، فإن الحب والعيش في سبيل الله هو المعنى الأعمق للجهاد، ومعنى "اقتحام العَقَبة" بحُبِّ "المساكين واليتامى". وإني أحلم باليوم الذي يَعتبر فيه علماء الإسلام هذه الفكرة عقيدة، بل ركنًا سادسًا من أركان الإسلام. يقول مولانا جلال الدين الرومي:
"الجنة والجحيم بداخلك... ففي كل مرة نُحب فيها ندخل الجنة،
وفى كل مرة نحقد أو نتباغض... فإننا نسقط في نار الجحيم".
أقول: إنه من الصعب أن يعيش الجنةَ والحياة الأبدية، مَن لا يعيشها هنا بيننا بحُبِّ الآخرين! والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.