لفتَت انتباهَ المراقِبين الأعدادُ الكبيرة لضحايا جائحة "كورونا"، الذين هم من أصول صومالية في السُّوَيد، مشكّلةً أرقامًا غير متناسقة مع نسبتهم من مجموع المواطنين. ففي الشهر الأول من انتشار الوباء، كان 40% من الضحايا في العاصمة ستوكهولم من أصول صومالية، و18% من مجمل سكان السُّوَيد، في حين لا يشكِّل الذين هم من أصل صومالي أكثر من 1% من المواطنين. وفي سياق تحليل هذه الظاهرة، تَبيّن أيضًا أن نسبة المصابين بالفيروس مرتفعة جدًّا في أحد أحياء العاصمة، بين المواطنين/ات السريان الوافدين من العراق.
لم تقتصر ظاهرة النِّسب المرتفعة لضحايا فيروس كورونا بين الأقليات الإثْنيَّة، على بلد السويد، إذ تَبيّن ذلك أيضًا بين الأميركيِّين/ات من أصول أفريقية. وفي مدينة شيكاغو شَكّل هؤلاء 70% من ضحايا الوباء، في حين هُم يشكِّلون 30% من سكان المدينة. وأيضًا جاءت النِّسب بمِثل هذا التفاوت في ولايات ومدن أميركية أخرى، مثل لويزيانا ونيويورك وغيرهما.
دفعَت هذه الأرقامُ الصادمة الباحثين، إلى التَّحرّي عن أسباب هذه الظاهرة. ففي السويد، ارتكزت الحكومة على نشر المعلومات الوقائية بين المواطنين/ات، والاعتماد على وعيهم في التزامها، مع الاستمرار في الحياة بشكل شِبْه عاديّ، دون إغلاق المؤسسات التربوية أو النشاط التجاري. وقد بدَا أنَّ هذه المقارَبة نجحت نسبيًّا في احتواء الوباء، لكنها فشلت على مستوى بعض الأقليات.
وجَد الباحثون أنّ انتشار الوباء بشكل كثيف بين السُّوَيديِّين/ات من أصول صومالية، سبَبُه عامل أساسي -ضِمْن عوامل أخرى مؤثِّرة أيضًا-، وهو فشَل وُصول المعلومات الصادرة عن الحكومة إلى هذه الجماعة، بالسرعة ذاتها التي وصلت بها إلى المواطنين/ات الآخرين، إذ لا يُجيد قسم كبير منهم لغة البلد الرسمية، التي اعتمدَتها الحكومة حصرًا في البداية لنشر المعلومات.
أمَّا بين السِّريان، فالسبب يحمل خلفية ثقافية-دينية، إذ استمرّوا في إقامة الاحتفالات الدينية، والمشاركة الكثيفة فيها، والمشاركة بشكلٍ خاصّ -بالمئات- في مراسم الدفن والعزاء لأولى ضحايا الوباء منهم. تتميّز الجماعات المسيحية المَشرقية بالتزام الحياة الجماعية بشكل كبير، حيث تُعَدُّ الجماعةُ مَصدرَ أمان الفرد واستقراره. وقد نقل هؤلاء معهم هذه التركيبة النفسية والاجتماعية إلى السويد، حيث يتميّز المجتمع هناك بنقيض ذلك، بالتركيز على الفردانية، وعلى مسؤولية الفرد عن ذاته، وضمان خصوصية حياته. واللافت، أن النَّسَقَين المختلفَين في تحديد علاقة الفرد بالجماعة ودوره في المجتمع، يرتبطان إلى حدٍّ بعيد باختلاف المعتقد بين السِّريان الشَّرقيِّين والبروتستانت اللوثريين في السويد، ضِمن الديانة المسيحية الواحدة. وقد أنتَج النَّسقُ الأوَّل بُنْيةً، تجعل ارتباط الفرد بالجماعة الدينية لأسباب عَقَدِيّة وتاريخية، هو ضمان أمانه وخلاصه، في حين أنتَج النَّسقُ الثاني القيمَ الفردانية، التي تجعل من الفرد مسؤولًا ومتمكّنًا من تحقيق خلاصه بذاته، أَعَلَى المستوى الاجتماعيِّ كان أمِ الديني.
عندما وضعَت الحكومةُ السُّوَيديّة المعروفة بالحَوكمة الرشيدة سياساتِها، لمواجهة وباء كورونا، نظرَت إلى المجتمع السويدي بصِفَته كتلةً واحدة، وبنَت مقاربتها على هذا الأساس. لكنَّ حملة التواصل والتوعية، التي اعتمدَتها سلاحًا أساسيًّا في مواجهة الوباء، فشلت في الوصول بشكل سريع ومُقْنع إلى الذين هم من أصول صومالية لأسباب لغوية، وإلى المنتمين إلى الكنيسة السريانية لأسباب ثقافية-دينية. فاستدركَت السلطات السويدية هذا الأمر لاحقًا، وبدأت بنشر المعلومات باللغة الصومالية أيضًا، وجرى التواصل المباشر والحوار مع الجماعات الأخرى كالسِّريان. ولكن، كان قد وقع عشرات الضحايا، بسبب عدم انتباه الحكومة أساسًا لهذه التمايزات، ضِمن المجتمع السويدي. فالتنوّع الإثني واللغوي والثقافي والديني، وما يرتبط به من خصوصيات اجتماعية ونفسية، ظلّ مَخفيًّا عن شاشات رادار السلطة، التي تعوّدَت -كما غيرها من الحكومات- رؤيةَ الواقع، عبْر نظَّارات القومية الانصهارية أو الليبرالية الراديكالية، حيث في كِلْتا الحالتين يُجرَّد الفرد من أبعاد أساسية في حياته، ناتجة من انتماءاته الثقافية والاجتماعية المتعددة.
أظهرَت مواجهةُ الكورونا حاجةَ الحكومات والسلطاتِ المحلية لكي تنجح في مَهامِّها، إلى اعتماد الحَوكمة الثقافية جزءًا أساسيًّا من سياساتها العامة. والمساواة بين المواطنين -وفي خدمتهم- لا تتحقق فعلًا، إلّا إنِ ارتكزت على الاعتراف بالتمايز فيما بينهم، على مستوى الحاجات والقدرات. فلماذا لا نتعلّم ولا تتعلّم الحكوماتُ في هذا المجال، من مواقع التواصل الإلكتروني، التي تنجح في الوصول إلى المستخدِم(ة)، لتقدّم له ما يناسبه أو يحتاج إليه من معلومات، بناءً على بياناته الخاصة فقط؟ إنَّ الاهتمام والاحترام المقدَّمَين للآخر في تلك المَواقع، لم يَعُودَا يَحصُلان على أساس أنَّ الآخَر "إنسان"، يتساوى مع الجميع في كرامته الإنسانية وحسْب -وهذا أقلُّ الواجب-، بل أيضًا على اعتبار أنّه "شخص" يحمل بذاته خصوصية، تُشكِّل معيار النجاح في التواصل معه وخدمته.
قد يصبح العالم بعد الكورونا أكثر تعقيدًا، بسبب وعْيِنا بالتنوّع والاختلافات الموجودة داخل كلِّ مجتمع. لكنَّ الاعتراف بالتنوّع قد يجعلنا أكثر إنسانيّة، ويقلّل من ضحايا المحن المقبلة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.