جيلُ الأبناء أشدُّ حضورًا في العالم من جيل الآباء؛ لأن العالمَ أشدُّ حضورًا لديهم. العالم يَحضر لديهم بملامحِه وتضاريسِه الجديدة عبر: اليوتيوب، والفيس بك، وتويتر، والواتس أب، وتطبيقات التواصل الاجتماعي المختلفة. يَحضر العالَمُ من خلال العلمِ والتكنولوجيا ووسائلِ التواصل الاجتماعي والذكاءِ الصناعي، في حين كان جيلُ الآباء أشدَّ غيابًا عن العالم؛ لأنهم لا يمتلكون ما يمتلكه الأبناءُ من صلاتٍ نسيجيةٍ ممتدّةٍ بامتداد الجغرافيا السكانية في الأرض. لقد كان العالَمُ غائبًا عنهم، وإن حضر فلا تحضر منه إلّا صورٌ باهتةٌ كأنها أشباح.
لكلِّ جيلٍ أمراضُهُ الخاصة. استبدّت بالجيلِ الجديدِ أمراضٌ تحكي قوةَ الواقعِ الذي يعيشُهُ، وتعكسُ تعقيداتِه المختلفة، والأصداءَ الحادّة لإيقاعِ تحوّلاتِه المفاجِئة. بعضُ هذه الأمراض أشدُّ فتكًا وأعنفُ وأخطرُ من أمراضِ الجيل السابق، كما تُعلن لها جروحُ الروح، وتوتُّراتُ المزاج، واضطراباتُ المشاعر، وتقلباتُ التفكير، وتذبذباتُ المواقف.
جيلُ الأبناءِ لا يسيرُ على خارطةٍ مرسومة سلفًا يهتدي بها مثلما كان جيلُ الآباء، ولا يبحثُ عن بوصلةٍ تحدّدُ وجهتَه. لا يرتبك أو يكترث لقرارِه بالتوقّف المفاجئ، ولو قطع منتصفَ الطريق، من دون أن يبررَ قرارَه بالتوقّف أو يلتمس له عذرًا، مهما كانت خساراتُه. لا يملُّ من أن يجترحَ كلَّ مرة طريقًا لم يسلكها من قبل. لا يوحشه تكرارُ البدايات، ولا يتردّد في هجرِ مَواطنَ أَلِفَها إلى ما لم يألفه، وتجريبِ ما لم يُجرّب من قبل، وكأنه مكتشفٌ أبدي، لا يفتقر إلى شجاعةِ المغامرة، ولا يتردّد في المجازفة، وإن كانت ضريبةُ ذلك باهضة.
يمتلك الجيلُ الجديدُ مهاراتٍ متنوعةً في توظيف وسائلِ التواصل الاجتماعي واستخدامهاتِها المتنوعة، في تأمين متطلباتِ حياته المختلفة. وهذه الوسائل هي التي تسهم في إنتاجِ أنماطِ وجودِه وعيشِه وصِلاتِه بما حوله. وسائلُ التواصل اليوم تُنتج معاييرَها القيمية الخاصة، وتعمل على صياغةِ العلاقات الاجتماعية، وإعادة تشكيلها في سياق آفاق حياةِ الجيل الجديد ورغباتِه وأحلامِه.
كلُّ شيء يكتسب معناه من نمطِ صِلاتِه الوجودية بغيرِه من الأشياء. الجيلُ الجديد أكثرُ قدرةً على إدراكِ المعاني الجديدةِ للأشياء؛ لأن الأشياءَ في عالمنا اكتسبت معانيَ جديدةً، أو أُضيفت إلى معانيها أبعادٌ لم نكن نعرفها من قبل، ولم تعُد تسمياتُها المتداولةُ من قبل تتسع لدلالاتِها الجديدة اليوم. ذلك أن العالمَ يتغير، والرؤيةُ للعالم تتغير، وطريقةُ التفكير تتغير، ومعاني الأشياء تتغير، وقاموسُ التعبير عنها يتغير.
عالمُنا اليوم عالمٌ شبكيّ متداخلٌ كنسيجٍ متشابك، لم يعُد التفوّقُ فيه عبر بناءِ كانتونات ومحميات مغلَقة على نفسها، بل معيارُ التفوّق فيه يقاس بمدى كثافةِ الحضور عبر نسيجِ الشبكاتِ الإلكترونيةِ العابرةِ للقارات، والقادرةِ على اختراقِ الحدود الجغرافية والديمغرافية والدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
إنْ كانت هذه صورةَ العالم غدًا، فكيف يكون حضورُ مجتمعاتنا في مثل هذا العالم، الذي لا يكفُّ عن الصيرورة والتغير والانتقال من محطة إلى أخرى بسرعة فائقة، عالم لم تتخذ هذه المجتمعاتُ حِيالَه تدابيرَ تتناسب وحجمَ تحدّياتِه الهائلة؟!
كلُّ معلمي المدارس الابتدائية، ومدرّسي الثانويات، وأساتذةِ الجامعة، يتبرّمون من أن جيلَ الأبناءِ يفتقرون إلى الجدِّيَّةِ والوفاءِ بمتطلبات الواجباتِ المدرسية، والمثابرةِ على الحضورِ والإصغاء والتلقي في الفصول الدراسية؛ لذلك تدهور مستوى التلامذة وضَعُف تكوينُهم، ولم يعُد كثيرٌ منهم مؤهَّلًا لمرحلته المدرسية. وهذه مشكلةٌ صارت مزمنةً في أكثر من بلد، على درجاتٍ تختلف كمًّا، وتتطابق كيفًا.
النظامُ التعليمي الذي أنتج وعيَ الآباء ما زال يعيد إنتاجَ وعي الأبناء، وهو وإن كان متناسبًا مع ذهنِ الآباء، لكنه يعجز اليوم عن إنتاجِ وعيٍ مواكبٍ لحياةِ الأبناء، بل يتفاقم التضادُّ والنُّشوز بين النظامِ التعليمي، وقدرةِ الأبناء على التلقي والتعلّم، وكلما مرّت عليه سنةٌ جديدة غدا متخلّفًا أكثر؛ لأن وتيرةَ التغيير في زماننا كلَّ سنة فيها تساوي عشراتِ السنين مما مضى، كما تشير إلى ذلك الأبحاثُ العلمية في هذا الحقل.
نحن في حاجة إلى البحث عن جذورِ هذه المشكلة في بنْيَةِ التربية والتعليمِ الموروثِ منذ عشرات السنين، الذي ينتمي إلى عالم الأمس المختلف عن عالم اليوم اختلافًا جوهريًّا. فلم يعُد الكِتابُ وحده رافدًا لتلقّي المعرفة، بعد أن تَراجع موقعُه وأضحى رافدًا -ربما ثانويًّا- بموازاة روافد متدفقة غزيرة متنوعة، ولم يعُد التعليمُ وَفْق أساليبِ التدريس الموروثة وطرائقِه ملائمًا لعالمنا اليوم، بل لم يعد الصفُّ المدرسي بفضائه وأدواته المتعارفة ملائمًا للتعليم، وقبل كلّ ذلك لم تعد ملائمةً اليوم معظمُ المعلومات والمفاهيم والخبرات والمهارات المكدّسة بعشوائية في المقرّرات المدرسية المتدوالة؛ لأن أغلبَ مضامينها لا ينتمي إلى عالم الأبناء، ولا يشبه أحلامَهم، ولا يلبي احتياجاتِهم؛ لغربتها عنهم، وغربتهم عنها. لذلك، يشعر الأبناءُ بالاغترابِ والمرارة عندما تُفرض عليهم هذه المقرّرات، ويشمئزُّون عندما يجدون أنفسَهم ملزمين أن يمضغوا أشياءَ لا تشبه ذائقتَهم ولا يشبهونها، ويتعلمون علومًا ومعارف لا تنتمي إلى زمانهم، ولا تتحدّث بِلُغةِ عصرهم.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.