تابعتُ بكلّ سعادة اللاعب العربيّ المصريّ محمّد صلاح، وهو يُحرز النجاح تِلْوَ النجاح برفقة فريقه الإنجليزيّ الشهير. إنّ نجاحاته والرسائل الأخلاقيّة التي تَظهر في تعامله مع زملائه مِن جهة، ومعَ الجمهور المُحبّ له مِن جهة أُخرى؛ جعلَتْه أيقونة للكثير مِن الشباب والأطفال العرب والإنكليز، على حدٍّ سوَاء.
قرأتُ قبل أيّام بعض الدراسات، التي تُؤكّد تَراجُع كراهيَة المسلمين/ات والعنصريّة ضدّ الأقلِّيّات في جمهور النادي العريض، منذ أنْ سطع نجم محمّد صلاح قبل سنوات. ولم أكُنْ في حاجة إلى قراءة دراسات لإدراك ذلك. فقد يستطيع المتصفّح(ة) أنْ يُلاحظ التغيير الإيجابيّ في قَبول المختلف، وتَراجُع النظرة العنصريّة، عبر قراءة حسابات للكثير مِن البريطانيّين/ات في تويتر. فكيف لشخصٍ واحد أنْ يُحدث هذا التغيير؟
لم يتكلّم محمّد صلاح عن دينه كثيرًا، ولم يَعقد المحاضرات التي تُعرِّف البريطانيّ(ة) بأصله المصريّ الأصيل وعقيدته الإسلاميّة، ولم يُحاجج الآخر بالأدلّة والبراهين، ولم يُعِدْ ويُكرّر النصوص الدينيّة على مسامع الأجانب، ولم يتدخّل في معتقدات زملائه. هو ببساطة جعلَهم يرَون أخلاقه ودينه، في مثابرته وعزيمته وتعامله الراقي معَ الآخرين، وقدرته على الاندماج بسلاسة وتكوين صداقات واسعة مع الناس، بِغضِّ النظر عن معتقداتهم وأصولهم.
نجحَ محمّد صلاح فيما فشلت فيه مئات البرامج الموجّهة المدفوعة، التي تُعيد وتُكرِّر كلامًا كَثُر استهلاكه، وعُدِم أثرُه، دون أن ينعكس هذا الكلام على علاقات الناس محبّةً واحترامًا وتقبُّلًا. شخصٌ واحد، جمعَ حوله ملايين المُحبّين/ات مِن شتّى الأديان والأعراق.
نحنُ في حاجة إلى هذا النموذج الناجح المهذَّب في شتّى المجالات، سواءٌ في بلادنا أو في بلاد الاغتراب. شبابٌ/ات يَعُونَ أهمّيّة العملِ ضمن فريق، ونبْذ الأنانيّة، والتركيز على الهدف الشامل بدلًا مِن النجاحات الفرديّة. نحن في حاجةٍ إلى شباب/ات يحملون أخلاقه وأدبه، وقدرته على الاندماج في محيطه المختلف دون الانسلاخ عن بلده وعالمه، ودون كراهيَة هذا المحيط ومحاولة تغييره. نحتاج إلى شباب/ات لديهم هذه القدرة على استيعاب الفَوارق، وتسخيرها لبناء عالم أكثر أَمْنًا ومحبّة.
قصّة الحبّ بين محمّد صلاح والبريطانيّين، ذكّرتْني بقصّة مشهورة لطبيب أفريقيّ، أرادَ البقاء في فرنسا بعد التخرّج مِن جامعاتها، خوفًا مِن أنْ يُصبح جزءًا مِن منظومة الفساد الموجودة في بلده، والتي يُشارك فيها أعضاء مِن عائلته. القصّة تحوّلت إلى فِلمٍ فرنسيّ مشهور، أوضح كيف استطاع الطبيب أنْ يكتسب محبّة قرية صغيرة مِن السكّان البيض، الكارهين لأصحاب البشرة السمراء. فالطبيب حصل على ثقة سكّان القرية بمثابرته ونجاحه. ومِن أسباب هذا النجاح، اندماج ابنته الموهوبة في فريق كرة القدم، ومساهمتها في فوز فريق القرية بمباريات محلّيّة؛ ما جعل سكان القرية ينظرون إلى عائلة الطبيب على أنّها مَكْسب، ويرغبون في بقائهم لتأثيرهم الإيجابيّ في قريتهم.
العنصرية ضد المهاجرين مَقيتة ومرفوضة، ولا يبرِّرها نجاح أو إخفاق. لكن، ليس بالقانون وحده يمكن محاربتها، بل بالعلاقات الإنسانية، التي تُذيب الحقد والأفكار المقدَّمة الخاطئة.
أعداد كبيرة مِن شبابنا/ات تُقرّر الهجرة إلى الغرب، للعمل أو البحث عن الأمن أو الرغبة في حياة أفضل، بعيدًا عن الحروب والفساد. ولكنَّ الفرد المُهاجر ينسى أحيانًا، أنّه كما يُريد تحقيق مكاسب لنفسه، فإن المجتمع الذي سيذهب إليه يُريد أن يكون هو كاسِبًا أيضًا، وأنّ العلاقة بينه وبين البلد الذي سيُقيم به، هي علاقة مُتبادلة وليست في اتّجاه واحد.
يُؤخَذ على بعض الجاليات في الغرب، عدم رغبتها وقدرتها على الاندماج في المحيط المتنوّع. فيختار الكثيرون مِن أبناء تلك الجاليات التَّقَوقع في مناطق معيّنة، حيث تجد أحياءً كاملة لهم، ومراكز للتجمّع. وهذا في حدِّ ذاته ليس بخطأ، إنْ كانت هذه الجاليات تتفاعل معَ المجتمع الكليّ، وتَفرض نفسها كلاعبٍ أساسيّ فيه. ومع أنَّ وضْع الجاليات اليوم مِن حيث الاندماج والتأثير لم يصلْ إلى ما هو مُتأمَّل، إلّا أنّه أفضل بكثير مِن السابق (قبل أحداث أيلول/سبتمبر والحرب على الإرهاب)، حيث كان مِن الطبيعيّ أنْ تُصادف ربّة بيتٍ عاشت في الغرب عشرات السنوات، دون أنْ تُجيد سوى بعض الجمل مِن لغة البلد الذي اختارته وعائلتَها، للهجرة أو العمل أو تأمين فرص الحياة الكريمة.
الشخصيّة الإيجابية التي تتمتّع بالذكاء الاجتماعيّ، لا تخاف مِن الاندماج، بل تُصادق وتسمع وتشرح، وتكسب الأصدقاء، وتَعرض قضاياها بذكاء، وتُحاور بلا انفعال، وتَستخدم المنطق والعقل، وتَعْرف بماذا تتشبّثُ وماذا تترك، وتُميّز ما الغثُّ مِن العادات والتقاليد التي تُشكّل عِبئًا على حاملها، وما الثمين منها، وما الذي يستحق التمسُّك وعدم التفريط فيه. الشخصية الإيجابية تتأثر وتؤثِّر وتندمج، وتُزهر أينما حلّت وارتحلت.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.