حُب الرئاسة والتشبث بالسلطة، مشكلة مزمنة في تاريخنا الإنساني، استبيحت من أجلها الدماء، ودُمر العمران والبنيان. وهي رغبة تنطوي على تقديس النفس، وحب الظهور، والغرور؛ ولذلك كان الزهد في الرئاسة أصعب أنواع الزهد، كما يقول سفيان الثوري: "ما رأيت زهدًا في شيء أقل منه في الرئاسة". يصعب العثور على أمثلة كثيرة لحكام تنحَّوا، أو تنازلوا بمحض إرادتهم على مدار تاريخنا الإنساني، ولا نكاد نجد سوى نماذج معدودة، من زعماء استطاعوا أن يلجموا رغبة الرئاسة في نفوسهم، ويقدموا مصلحة شعوبهم واستقرارها على مصالحهم الخاصة.
أول نموذج نجده في تاريخنا الإسلامي، هو ما فعله الحسن بن علي عندما تنازل عام 41هـ عن الخلافة لمعاوية، وسمي هذا العام بـ "عام الجماعة". ولم يكن تنازل الحسن لمعاوية ابن أبي سفيان تنازلًا عن الحق، أو خوفا على النفس، وإنما حقنًا للدماء وحفاظًا على العباد، فقد جاء عن الحسن (رضي الله عنه) قوله: "كانت جماجم العرب بِيدي، يسالمون من سالَمْت، ويحاربون من حاربت، فتركتها [الخلافة] ابتغاء وجه الله، وحقن دماء المسلمين". لقد كان تنازل الحسن عن الخلافة تعبيرًا عن سموّ خُلقه، وعظيم رحمته بالناس، وهذا ما يصعب وجوده بين الزعماء والسياسيين في القديم والحديث. ولا يَضير الحسن أنّ معاوية قد خالف أهم شروط الصلح معه، والذي يقول: "أن يكون الأمر شورى بعد ذلك". فجعل الخلافة لابنه يزيد، لتكون سنّة سيئة بعد ذلك في تاريخنا الإسلامي.
ولا نكاد نجد في تاريخ خلفاء بني أمية سوى محاولة واحدة للتنحي عن الحكم، قام بها معاوية الثاني (684م)، عندما شعر بأن مصلحة الناس هي في تَولِّي من هو خير منه للحكم، وهذا بحسب ما ذكره ابن قتيبة في كتابه "الإمامة والسياسة"، والذي يذكر أن معاوية الثاني "لم يلبث بعدها إلا أيامًا حتى طُعن". وهذا خشية أن تذهب الخلافة من أيدي بني أمية.
وفي تاريخ الشعوب الأخرى، نجد نموذجًا رائعا جاء في "الرامايانا"، وهي ملحمة شعرية هندية مقدسة، تعود إلى الفترة الواقعة ما بين القرنين السادس إلى الثاني ق.م. تذكر "الرامايانا" أن الملك راما الحكيم، صرّح بكل شجاعة برغبته في التنازل عن الحكم "التنحي"، لأنه شعر بأنه غير قادر على القيام بواجباته نحو شعبه: "اخترتموني ملكًا عليكم، وقد بذلت كل جهدي في القيام بواجباتي نحوكم، ويحتم عليَّ واجبي أن أصارحكم بأن أعباء المُلك فوق مقدرتي الآن، وأراني أضعف من أن أتحملها،...". وتتجلى في هذه الكلمات الرائعة أخلاق الملك راما الحكيم، الذي يتصف بالمصارحة، والصدق، والتواضع، واحترام شعبه، واستعداده للتضحية بالحكم.
ومثال آخر نأخذه من اليابانيين، الذين كان لديهم من الشجاعة والذكاء ما جعلهم يعيدون النظر في سلطة الإمبراطور (ميكادو)، رغم اعتقادهم بأنه سليل آلهة الشمس، وذلك بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، وأصبح الإمبراطور عندهم مجرد رمز في نظام الملَكية الدستورية، المتبع في اليابان اليوم. وهذا الإصلاح هو أحد أهم أسرار النهضة اليابانية الكبيرة، التي ما نزال غافلين عن فهم أسرارها.
إن التنازل عن السلطة، هو فعل نبيل لا يقدر عليه سوى أناس ارتقت أخلاقهم، وسمت نفوسهم، وآثروا مصالح شعوبهم على مصالحهم الخاصة. فمن يستحق الاحترام أكثر من حاكم صادق مع نفسه، رحيم بشعبه، يتنحى عن الحكم بغية حقن الدماء، وإنقاذ العباد والبلاد؟
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.