يميل أكثر النّاس إلى تحميل الحُكّام في الدُّول العربيَّة، مسؤوليَّة ما يؤول إليه الوضع الاجتماعيّ والسِّياسيّ المعاصر. ولقد صاحبَتْ أكثَرَنا -ومنذ الطُّفولة- سرديّةُ الحاكم العربيّ المستبِدّ، مَصدر كلِّ الأعطاب الَّتي تُغرق بلداننا. وأمام نمط تفكيرٍ كهذا، يُصبح الحلُّ البسيط في ضرورة استبدالِ الحاكم المستبِدّ بحاكمٍ آخر!
لكن، لو كان واقع الحال في البلدان العربيَّة بهذه البساطة، لعَايَنَّا تحسُّنًا في أوضاع البُلدان الَّتي أَسقطَتْ حُكَّامها المستبدّين، ولرأينا أنَّ الوضع قد تَغيَّر إلى الأفضل منذ المرحلة الَّتي عُرفتْ بالرَّبيع العربيِّ. غيْر أنَّ الواقع يشهد على مزيد من التَّدهور في معظم هذه البلاد. وليس الغرض هنا أنْ أضع تحليلًا للمشهد السِّياسيّ، أو أُدافع عن هذا الحاكم أو ذاك. فمُعظمنا مُتَّفِق على أنَّ التَّغيير أصبح من أهمِّ الضَّروريَّات، وفي مُقدِّمة الأَولويَّات. لكن، ما الَّذي يجب تغييره بالتَّحديد؟ وهل يبدأ التَّغيير من رأس الهرم، أم من قاعدته الَّتي عليها يقف؟
تَفرض عليَّ طبيعةُ عملي الإداريِّ والأكاديميِّ التَّعامل مع فئات مُختلفة، ليس فقط مع الطُّلاب والطَّالبات، بل مع الأساتذة والعُمَداء والمسؤولين، وكثيرًا ما أَتَواصل مع الدَّوائر الأكاديميَّة والفكريَّة في البلدان العربيَّة الإسلاميَّة. ولقد رأيتُ فسادًا كاسحًا يستشري في أرْوِقة الجامعات أمام ناظرَيّ، لكنَّ قليلًا من هؤلاء الَّذين يُمعِنُون في تحميل الحُكَّام أسباب التَّدهور، تحمَّلوا مسؤوليَّاتِهم عن تحسين الوضع أو إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، بل كان كثيرٌ منهم طرَفًا في هذا الفساد، بشكل من الأشكال ودرجة من الدَّرجات.
لقد عايشتُ كيف يتسلَّط أصحاب القوَّة والسُّلطة على غيرهم. وأُشير هنا إلى أنَّني لا أتحدَّث بالسُّلطة السِّياسيَّة، الَّتي لطالما جعلناها بحقٍّ أو بدون حقٍّ شمَّاعة لكلِّ مشاكلنا. فما أتحدَّث به، هو بُنْية السُّلطة المُستبدّة في المجتمع، حيث يستبِدُّ رئيس الشَّركة بموظَّفيه، والمدرِّس بتلاميذه، وإمام المسجد بمَأمومِيه، والزَّوج بزوجته، والأب بأبنائه، والأخ بأخته. إلّا أنَّ أكبر سُلطةٍ استبداديّةٍ، هي تلك الَّتي تعَشعشَتْ في عقول الكثيرين، مُشكّلةً حاجزًا بينهم وبين التَّفكير النَّقديِّ، الَّذي نُطلق عليه مجازًا "التَّفكير خارج الصُّندوق"، أي خارج القوالب المعتادة الَّتي أسَرتْ وسجَنتْ عقول الكثيرين. فإنْ وقَع بعضُ التَّغيير -كَأنْ يُسمح للمرأة مثلًا بقيادة السَّيَّارة-، فإنَّ هذا التَّغيير يَحدث فقط لأنَّه جاء بأمر من السُّلطة، وليس من قناعة بضرورة المساواة بين حقوق الرَّجل والمرأة؛ وذلك ما يجعله تغييرًا مُشوَّهًا في كثير من الأحيان.
إنَّ الاستبداد ما كان له أن يُصبح ثقافةً، إلَّا بغياب الحرِّيّة. ومرّة أخرى، أركِّز على ضرورة فهم العبارة السَّالفة، ليس فقط في السِّياق السِّياسي، بل وقبْل كلِّ شيء في السِّياق الاجتماعيّ. وكما قال أحدهم: "مَن استبَدَّ بزوجته، ولَدت له عبيدًا". فحين يصير شائعًا في مُجتمع من المُجتمعات، أن يكُون أفراده فاقدي الحرِّيَّة، ومُسيَّرين من طرَف الآخَرين، فلا معنى بعْدها لصبِّ اللَّوم على الحاكم المستبدّ، لأنَّه مُجرَّد نِتاج لبُنْية اجتماعيَّة تُعيد إنتاج التَّسلُّط والاستبداد، ولولا الأخير لَمَا كان الأوَّل.
ما أودُّ أن أختتم به هذه المقالة، هو تأكيد أنَّ التَّغيير يحتاج -حتَّى يصير حقيقة- إلى أن يبدأ من أسفل نقطة في الهرم، وذلك بإعطاء الطِّفل شعورَه بإنسانيَّته وكرامته وحُرِّيَّته. ومَن نشأ على هذه القيم العزيزة، فلن يَقْبل أن يأتي مَن يَسلبُه كرامتَه وحرِّيَّته، كائنًا من كان. أمَّا من هانتْ عليه نفسه، فسيكُون هو أوَّل من سيسلبها حقوقها، ويتقبّل الهوان والظُّلم والاستبداد، بل قد يَبحث في الدِّين عمَّا يُبرِّر ذلك.
لا ينبغي أن يلُوم الحاكمُ والمستبِدُّ، مَن رضي بتقييد عقله بأصفاد الاستعباد، ووضْعِ أغلال الذُّلِّ في يدَيه! وأيضًا مَن سَلب أيَّ إنسان حقَّه في تقرير مصيره، سواءٌ زوجةً كان هذا الإنسان أو ولدًا أو موظَّفًا، فلْيَعْلم أنَّه سيُصبح نسخة من ذلك الحاكم المستبدِّ الَّذي يشتكي منه، وعليه أن يَشْرع في تغيير نفسه أوَّلًا، إن كان صادقًا في شكواه؛ إذ سقوط حاكمٍ ومجيء آخر، لن يَفكَّ أغلال الاستبداد.
إنَّ التَّغيير يبدأ حين يُعيد كلٌّ مِنَّا لذاته، الإيمانَ بحُرِّيَّتها وكرامتها. وهذا بالضَّبط ما عناه الفيلسوف الألمانيُّ كانط، حين عرّف التَّنوير بأنَّه تحرير الإنسان من قيود التَّبعيَّة الَّتي قيَّد نفسه بها. والبداية تكُون بتعامُلنا مع أبنائنا، ومع كلِّ مَن وُكِّل أمرُه علينا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.