كثرت تفاسير القرآن، بما يُشعر بأن هناك قراءات متعدِّدة له. ولكن، عند النظر إليها سنجدها كثيرًا ما تَنسخ بعضَها بعضًا، ولا يمكن أن نُنكر الثَّراء المَعرفيّ الذي أضْفَته هذه التفاسير، إلَّا أنها على المستوى الاجتماعي للمسلمين لم تَعُد كذلك. فقد أصبح القرآن صعبًا على أفهام بعضهم، وكلُّ ما يتلقَّونه منه لا يكُون بطريقة مباشرة، وإنما عبْر كتب التفسير التي تُعاني غياب البُعد الاجتماعي المعاصر.
عندما ننظر إلى عموم المسلمين، نجدهم ملتزمين في فهمهم للقرآن مَا ورثوه من سابقيهم. وبذلك، أصبحوا يرجعون في حياتهم الاجتماعية والفكرية إلى الماضي، ويَنشدون التجديد بالتزام الحياة التي كانت قبل مئات السنين. لذا، لا نَعجب أن نرى مَن ينادي بالجِزية أو الرِّقِّ أو الرَّجم، وبغيرها من الأحكام التأريخية المفارقة لمقاصد القرآن.
والسؤال: أين تَكمن المشكلة؟ تَكمن في آليّة التعامل مع القرآن، الذي جاء ليتفاعل معه المجتمع. فمثلًا عندما نزَل قولُ الله تعالى: {قُل هوَ اللَّهُ أحدٌ، اللَّهُ الصَّمدُ، لم يلد ولم يولد، ولم يكُن لهُ كفُوًا أحدٌ}، فَهِم الناس مباشرة أن عليهم ترك الوَثنيَّة، وأن يؤمنوا بأن الله واحد أحد، لا شبيه له من خلقه. وعندما قرأوا قوله تعالى: {وأقمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عن الفَحشَاءِ والمُنكرِ}، أدرك المسلمون أن عليهم التزام الأخلاق الفاضلة، لأنهم أصبحوا مُصلِّين. ولذلك، خاطب القرآن الناس بيُسر، ليَفهموه دون حاجة إلى علوم أخرى، وتأكيدًا لذلك قال تعالى: {ولقد يسَّرنَا القُرآنَ للذِّكرِ}.
لو امتدَّ هذا التعامل الاجتماعي لدى المسلمين، لتَحقَّق أمران مُهمَّان:
- عدم مصادرة فهم المسلمين للقرآن، من قِبَل أناس تَلقَّوا مناهجهم المعرفية من فترة الصراع السياسي الذي حصل بين الصحابة، ومِن بعدهم أصبح القرآن يُقرأ بلغة الصراع.
- تَعدُّد حقيقيّ في قراءات القرآن، وَفْق الحاجة الاجتماعية المتجددة للناس، وبذلك تتحرك حياتهم إلى الأمام، كما هو الوضع الطبيعي للبشرية.
إلّا أن هذا الصراع الذي خلّف المذاهبَ الإسلامية، أدَّى إلى بناء "عِلم الكلام"، والذي حصر الحقَّ في فرقة واحدة اعتُبرت الناجية. ولذلك، أوجب كلُّ مذهب على أتباعه أن يقلِّدوا أئمَّتهم في معاني القرآن. ثم إنَّ "عِلم أصول الفقه" أوصد أمام أفهام المسلمين، باب الاجتهاد المتجدِّد وَفْق حاجات تغيُّر العصور. وهذان العِلمان جعلا تفسير القرآن وَفْق علوم لم تَعُد الحاجة قائمة إليها اليوم، وأصبح على من أراد أن يستمدَّ مِن القرآن، أن يُحصِّل مَعارف تراثية كثيرة، لا يمكن تحصيلها إلّا بعد أن يذهب شطر من عمر الإنسان؛ ما جعل القرآن أشبَهَ بمعادلات يَصعب فكُّ رموزها.
لم ينحصر الصراع الفكري بين المسلمين أنفسهم، وإنما دخلوا أيضًا في صراع فكري مع أصحاب البلاد التي فتحوها. فقد واجهوا ثقافات حيَّة وأديانًا قائمة، كان عليهم أن يُثبتوا لها أن القرآن تنزيل من عند الله. فوُجِد ما يُعرف بإعجاز القرآن، والمقصود به أن القرآن لا يمكن أن يأتي أحدٌ من البشر بمِثله، واستُشهد على ذلك بآيات، منها: {وإن كنتُم في رَيبٍ ممَّا نزَّلنَا على عبدنَا فأتُوا بسُورَةٍ مِن مثلهِ}.
بِغضِّ النظر عن الجدل المَعرفيّ حول الإعجاز القرآني، فإنه أدَّى إلى أبعاد لغوية وفلسفية أكَّدت إخراج القرآن من مجاله الاجتماعي. وكان المسلمون جَدِيرِين بأن ينتبهوا لهذه المُعضلة منذ وقت مبكر، لكن ما حدث مع مَطلع العصر الحديث، أنهم وَلَجُوا أكثر فيما سُمِّي بالإعجاز العِلمي للقرآن. وذلك راجع إلى التحدِّيات الفكرية التي أوجدَتها الاكتشافات الحديثة؛ ما دفع بالمسلمين إلى محاولة إثبات صحة تنزيل القرآن، بالقول إنه قد أشار إلى هذه الاكتشافات قبل حصولها، ما عرّض القرآن للكثير من الطُّعون من قِبَل غير المؤمنين به.
بهذا، لم يَعُد المجتمع المُسلم متفاعلًا مع رسالة القرآن الأساسية، وهي الإصلاح الاجتماعي، بل تحوَّل إلى مادة مَعرفيّة تؤكد في طيّاتها فكرةَ الصراع الدائم مع الآخر المختلِف، سواءٌ في الدين أو المذهب أو الجنس أو المجتمع، ونحو ذلك.
لذلك، أدعو هنا إلى إحياء القراءة الاجتماعية للقرآن، القائمة على مراعاة مصالح الناس ومستجِدَّات حياتهم، وإلى الخروج من ثقافة الصراع التي يُقرأ بها منذ قرون طويلة، والتي أورثت المسلمين الاقتتال والتأخُّر الحضاري؛ وذلك بالاستفادة من التجربة النبوية المتفاعلة مع القرآن والمجتمع.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.