كثيرًا ما يَجري الحديث بسياسة "العصا والجزرة"، أي الترهيب والترغيب، التخويف والتطميع. وفي الحقيقة، كِلَا المَعنيَيْن فيه عُنف. العصا عنيفة جسديًّا ونفسيًّا؛ أمّا الجَزَرة ففيها إذلالُ النفوس وتطويعُها بعصًا سحريّة، تختفي وراء معسول الكلمات ولُعاب الرغبات.
يحتاج النظام الفاسد إلى كثير من العِصِيّ، وكثيرٍ من الجَزَر أيضًا، لكي يَمدّ نفوذه ويسيطر. الفئات المستفيدة التي تريد أن تعيش "بسلام"، تُعطي النِّظامَ تفويضًا، للتصرُّف فيما هو خارج نطاق مصالحها الضيِّقة. لا بد لعصا التعذيب أن تعمل في الخفاء، وفي الدَّهاليز التي نتبَخْتر فوقها يوميًّا، وكأنّ شيئًا لم يكن. المهمُّ أن العصا لا تَضرب ظهورنا أو ظهور أبنائنا. فَلْتَضرب بجنون ظهور الآخرين البعيدِين، الذين لا يَصِلنا صوت صراخهم. حتى ولو وصل، فإنّنا قادرون على اصطناع أُذن من طين وأخرى من عجين، أو نضع أصابعنا في آذاننا، أو نغيّر القناة المزعجة إلى قناة مريحة ومسكّنة.
هذا هو ما يُسمّى بالتَّواطؤ الصامت للملايين، التي تعيش تحت ظلّ الأنظمة النازيّة والفاشيّة، وتتعايش مع الظلم؛ لأن لديها مكاسب لا تريد أن تَفقدها: وظيفة، أو سكن، أو شيء من الأمان والحماية المَزعُومَين، أو "برستيج" مميّز... إنّ مظاهر الرّشوة عديدة في نظام تَأسّس على الفساد! هذه هي القُبّة الصوتية للنظام، أو جدار الصمت. فمَن بقي ضِمن حدوده موجودٌ، ومَن خرج عنه مفقود. ولكنه وُجود كالفقد، وفقد كالوجود!
تَروي بعض الأحاديث قصة المسيخ الدجَّال، أي النصَّاب، ذلك الديكتاتور الذي لديه جنّة ونار، ولكن جنّته نار، وناره جنة. قصَّتُه تُروَى ضِمن سياق علامات الساعة، ولا أفهمها بمعنى "آخر الزمان" في المطلق. فلكلّ أُمّة أجَلُها الخاصّ، مِثل الأفراد. ومِن علامات اقتراب آجال الأُمم اختلاط القيم، أو بالأحرى انقلابها. فيُصوَّر الخيرُ شرًّا، والشرّ خيرًا. هذه المنطقة الرمادية، هي منطقة اللّعب المفضَّلة للأنظمة الفاسدة. فلا يُعلم "مَن يقتل مَن"، ولا يمكن التمييز بين الحقيقة والإشاعة، ولا بين الإرهابي والوطني، ولا بين السمّ والعسل.
الالتباس والغموض يمنعان كثيرًا من الناس، من الرؤية واتِّخاذ القرار الصائب. لذلك، ليس من السهل إدانة "الصامتِين"؛ ما داموا خاضعين لنظام "ماتريكس"، وللأدلجة وغسيل الأدمغة، ولِلجزَرة اللعينة. ثم إنه من السهل على المتفرِّجين ادّعاءُ الشجاعة، عندما يَدينون أو يَنصحون من مسافة آمنة.
جاء في القرآن الكريم: {فوسوَسَ إليهِ الشَّيطانُ قال يا آدمُ هل أدُلُّكَ علىٰ شجرَةِ الخُلدِ وَمُلكٍ لا يَبلَىٰ} [طه: 120]. فالشيطان عندما أراد غَواية الإنسان بالأكل من الشجرة، تَلاعب بمشاعره، ومخاوفه، وطموحاته. والإنسان مسكون بخوفَين، هما: الخوف من الموت، والخوف من الفقر، وهو موت أصغر. وهذان الخوفان يتحوّلان إلى رغبتَين: رغبة في الحياة الأبدية، أي التحرّر من الموت؛ ورغبة في مُلك لا يَفنى، أي التحرّر من الفقر نهائيًّا. فوقع آدم في الفخّ برِجلَيه الاثنتَين، لأنَّ الشيطان كان عارفًا بأسرار النفس ونقاط ضعفها. والعنف يحتاج إلى الكذب لكي يبرّر قبحه ويجمّله، فالكذب عنف الكلمات. وأخطر أعدائك من يَعرفك من الداخل، خاصة إنْ أتاك بصورة الصَّديق أو الحريص على مصلحتك.
هذا يدعونا إلى التدبُّر في معنى الشهادة! فالشهيد هو الذي انفتحت عيناه على الحقيقة، فما طاق الصمت. اخترق جدار الخوف، فتهاوى تحت أقدامه كالهشيم. سواءٌ أَبِرَصاص قنَّاص قُتل أم تحت التعذيب، أم بقي على قيد الحياة في الغُربة والمَنفى. المهمُّ أنه لم يَعُد في إمكانه أن يغلق عينيه، أو يتظاهر بالجهل والغفلة.
لقد سقطَت الحُجب، وتَعرّت الحقيقة. هذه الحقيقة البشعة، تَكشف عن أجمل ما في الإنسان. إنها الحرية، رغم الأجهزة والعِصِيّ الحديديّة والجَزَريّة. فالإنسان يرفض أن يتحوّل إلى أرنب، يرفض أن يُروَّض، أو أن تُنتزع منه إنسانيّته مَهْما كان الثمن. هذا الجبَّار يخيف الأنظمة، ولو كان أَعْزَلَ وحيدًا بعيدًا. القضاء عليه أولَويّة، ولا بد أن يعُود إلى حظيرة الطاعة، وإلى تلك المنطقة الرمادية الضبابية، التي تُعْدم فيها الرؤية. ولا بد أن يُجرَّ إلى منطقة يَتلوَّث فيها، حتى يَفقد تفوُّقَه الأخلاقي الفاضح، لانحطاط الفاسدين. ولا بد أن يكون الجميع ملوَّثين متساوين في الحمق والعنف، فلا نستطيع التفريق بين العدوِّ والصديق.
المعركة النفسية لأجل البقاء على قيد الكرامة والإنسانية، ليست سهلة. حتى إذا ما لَوّح الشيطان بجزَرة "مُلْك لا يَبْلى"، أجابه الإنسان: "أنا مَلِكٌ بتاج إنسانيَّتي، ولا يُلدغُ المؤمن من جُحْر مرّتَين". فمن ذاق طعم الحرية، فلا يستسيغ العبوديّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.