تظل التعددية معزوفة جميلة يحب بعضهم الاستماع لها، ضمن برنامج "ما يطلبه المستمعون". فهو البرنامج المتخصص بالتنقيب عما كان يسمعه الأجداد، والنبش عما تتناقله ثقافات بعيدة. لكنه يبقى برنامجًا ذا مدة محددة، وقاعدةَ مُستمِعين منمقة، ونسبة قبول متناهية الصغر.
هذه المعزوفات تتمثل بكتابات تنويرية، وأحاديث استنهاضية، ودعوات استنفارية، تدق نواقيس الخطر منذ سنوات، محذِّرة من حروب مذهبية، واقتتالات عرقية، واحتقانات مجتمعية، قائمة على رفض هؤلاء لأولئك، وتفضيل هذه الجماعة على تلك؛ لأسباب تدق على وتر الأحادية، والترهيب بكل ما يندرج تحت بند التعددية.
ضيف الفضائيات المشهور، النخبوي المفوَّه، المفكر المحنك، رافع راية التنوير، ومتبنِّي قضايا التطوير، والداعي إلى ضرورة استنهاض الفكر العربي، قال بحدة شديدة: "تعددية؟!! كيف تجرُئِين؟! مجتمعنا إطاره واحد، ونسيجه واحد، ومكوناته منصهرة كل الانصهار. فرقٌ كبير بين السماح لأقليات باعتناق واتِّباع ما تودّ من مذاهب، شرط أن تحافظ على انصهارها مع الأغلبية، وبين مَنْع هذا الاختلاف من الأصل. ونحن -والحمد لله- منصهرون".
الانصهار القائم على أساس ذوبان من ينتمون إلى منظومات، تختلف عن الأغلبية (وهي في الأغلب منظومة دينية)، والذي دارت رحاه على مدى العقود الأربعة الأخيرة، تارة بالترهيب، وأخرى بالتضييق، وثالثة بالتهديد- أدَّى إلى بزوغ مجتمعات عربية تعاني (شيزوفرانيا) مظهرية، وعُقدًا نفسية، ومواضع كبت عصبية، تحتاج إلى تدخلات من منظمة الصحة العالمية. فالمنصهرون من دون الأغلبية مضطرون. والمنصهرون من أبناء الأغلبية تعرضوا لعمليات إلغاء عقل، ودهس منطق، ووَأْد أية بوادر للتفكير أو النقد أو الإبداع، فخرجوا أشبه بخط "الإنتاج بالجملة" mass production، حيث القالب واحد، والفكر الأحادي غالب. حتى المنصهرون المنتمون إلى الأغلبية، بحكم خانة المعتقد في الهوية،لكن مِمَن نجَوا من عمليات الدهس الفكري، يجدون أنفسهم في موقف أسوأ من هؤلاء، وأخطر من أولئك، حيث تهديد ووعيد بضرورة إعلان التبعية، وإلا جرى اعتبارهم من فئة المنصهرين من باب الاضطرار. هذه الفئة الأخيرة الناجية من عمليات التنميط والتعليب، الدائرة رحاها في المجتمعات العربية، شذَّت عن القاعدة ولم تمتثل للمنظومة القيمية العربية "الحديثة"، الغارقة حتى أذنيها في الأحادية.
في مقال نشرته "تعددية" بتاريخ 6 نيسان (أبريل) الجاري، كتب الأب فادي ضو في مقال عنوانه "صراع القيم"، أن الفرد "يتلقى منظومته القيميّة عبر البيئة التي يعيش فيها، والتربية العائليّة، والمدرسيّة، والدينيّة، والمجتمعيّة، ومن ثمّ يُحدّد بذاته عبر مسار حياته، خياراته القيميّة الخاصة، منتقيًا مما تلقّاه ما يُناسبه، ومتبنّيًا قيمًا أخرى وفق إرادته". وقبل أن يحلِّق قارئ الكلمات في آفاق الاختيار والإرادة الحرة، والحرية الفكرية، وغيرها من ضروب الخيال وصنوف الأحلام، في ظل الواقع العربي المجهض للآخر، يعود الكاتب منبِّهًا إلى "الواقع اليوم، وخاصة على مستوى المجتمعات العربيّة، فيُظهر وجود قوى داخل المكوّنات الاجتماعيّة، سياسيّة كانت، أم إيديولوجيّة، أم دينيّة، تريد أن تسير في الاتجاه المعاكس عبر تأكيد خصوصيّة قيميّة منغلقة، والترويج لها بوسائلها التعبويّة الفعّالة". وأزيد على ما كتبه الأب فادي أن هذه القوى المشار إليها، سارت بالفعل في الاتجاه المعاكس منذ سنوات طويلة مضت، وجذَّرت للخصوصية القيمية المنغلقة، القائمة على خطاب عقائدي رسّخ لرفض الاختلاف، وأسس لنبذ التنوير، وجعل من فكرة التعددية شيطانًا أخرق.
نظرة سريعة لنا في المرآة، تكشف عن أجيال وُلدت في زمن التنميط، ونشأت في عصر الأطر الفكرية سابقةِ التعليب، وخرجت إلى الحياة العملية معتقدة أن الاختلاف نقمة، والأحادية نعمة، وأن كل من يبذل جهدًا عضليًّا، أو دعويًّا، أو حتى ذهنيًّا، لغلق مسامّ الاختلاف، ورأب صدع التفاوت، وإغلاق نوافذ التنوع، هو إلى الله أَحبُّ، وإلى الجنة أقرب. حتى الأجيال الأكبر سنًّا، فقد وقع الكثيرون من أبنائها في الفخ نفسه، فباتت مجتمعاتنا في الألفية الثالثة تسير في اتجاه مغاير، حيث اعتبار الأحادية هدفًا يراد تحقيقه، والتعددية كذلك هدفًا يراد تفجيره، أو تفخيخه (أو أيهما أقرب). وتختلف أدوات تحقيق الأهداف، فمنها ما هو ترويع، ومنها ما هو تهويل، ومنها ما يدق على أوتارِ تأنيب الضمير والتلويح بعقاب السماء، وكأنَّ الاختلاف رجس، والتعدد دنس.
للعلم والإحاطة، تشير المعاجم إلى أن من مرادفات كلمة "اختلاف": اختصام، وتنازع، وتضاد، وتنابذ، وافتراق، وخصومة، وخلاف، ونزاع.. أمَّا كلمتا "تعدُّد"، و"تعدُّديّة" فـ: "عذرًا، لم يفلح بحثك بالعثور على أي نتائج"!
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.