يمثل التنوع مقدمة جدلية تحفز المعرفة الإنسانية وتُنضج وعي المرء وتجربته، ومن النماذج الدالة على ذلك ما انطوت عليه الحضارة العربية الإسلامية من تنوع ثقافي وعِرقي ولغوي، امتزج فيه العرب بالأتراك والبربر والفرس والأكراد والهنود، وغيرهم من الأعراق والقوميات التي صاغت مجتمِعة حضارة تربعت على ربوة القرون الوسطى بلا منازع.
وفي الوقت الذي كان اليهود يعانون فيه التمييز والإقصاء في أحيائهم المعزولة في الغرب (الجيتو)، كان العلماء اليهود في العراق ومصر والمغرب والأندلس جزءًا من الحركة العلمية والأدبية في الحضارة العربية الإسلامية، ولا أدلَّ على ذلك من الفيلسوف الطبيب موسى بن ميمون الذي كان طبيبًا للعائلة الأيُّوبية، وهو من أعظم علماء اليهودية في القرون الوسطى.
يتراجع التنوع الديني في المجتمعات التي تستحوذ فيها الأغلبية على الحقيقة الدينية، وهو استحواذ مُضلِّل تختفي وراءه مصالح الذات وأهواء النفس، ولا يلبث أن يجلب على المجتمعات الضعف والهزيمة.
عندما تفقد المجتمعات تنوعها وحقها في الاختلاف فإن ذلك يُؤْذن بخراب العمران فيها، وهذا ما نجده اليوم ظاهرًا في بعض الدول العربية التي فقدت تنوعها إلى جانب أمنها وحياة أبنائها.
إن تراجع التنوع الديني في مجتمعاتنا العربية على مستوى المعدلات السكانية، قد جاء نتيجة أسباب كثيرة بعضها ما هو سياسي وأمني، ومنها ما هو اقتصادي واجتماعي. وعلى سبيل المثال فقد كانت نسبة المسيحيين في سوريا بداية القرن العشرين تقارب 30%، انخفضت إلى قرابة 8% في بداية القرن الواحد والعشرين؛ أمَّا اليهود العراقيون فقد كان عددهم 135 ألفًا عام 1948، وما لبث هذا الرقم أن تراجع ليصبح عددهم عند الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003 أقلَّ من 100 شخص!
خلافًا لما يعتقده دعاة الصراع العَقَدِيّ، فإن الصراع والاحتراب ليس نتاجًا للتنوع الديني والعِرقي بين الناس، وإنما هو نتاج لاستلاب كرامة الإنسان واستفحال الطغيان وضياع الحقوق. فالأحادية السياسية المتسلطة تفرض نفسها على المجتمع، وتعطّل مقدرته على قبول التنوع الديني أو استثمار نتائجه.
يؤكد إخفاقُ أتباع الدين الواحد في قبول تنوعهم الديني على مستوى المذاهب والطوائف، عجزَهم عن الانخراط في دائرة أوسع للتنوع خارج دائرتهم الدينية الخاصة. ولعل ما نجده اليوم من صراع محموم بين أتباع الدين الواحد، كما هو الحال بين بعض السنة والشيعة مثلًا، أنما يشير إلى الضعف الأخلاقي ممارسة للتوحيد فضلًا عن تقويضه لصورة الإسلام وسماحته.
إن اغتيال التنوع في مجتمعاتنا العربية هو بمرتبة اغتيال للسنن الاجتماعية التي خلق الله الناس عليها، فالخالق تعالى هو الذي أراد لخلقه أن يكونوا أنواعًا مختلفة؛ لأن ذلك يُحدث بينهم حراكًا معرفيًّا يرتقي بالمجتمعات الإنسانية نحو التقوى التي تمثل غاية العبادة والتكليف، كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحُجُرات: 13].
النظر إلى التنوع الديني باعتباره نقيضًا للذات الدينية، هو أحد مخرجات النظم الأحادية الجبرية التي سعت عبر التاريخ إلى تطويع الناس وجعلهم "على دين ملوكهم"، خشية أن تؤدي حرية الاعتقاد عندهم إلى حرية التعبير والمراجعة والنقد.
عندما تفقد المجتمعات تنوعها فهي تصبح كالأجساد التي فقدت "صبغة الميلانين" ولم يعد لها سوى لون واحد، أو تصبح شبيهة بما يسمى بـ"التوحُّد"، وهو ما يَحُول دون تفاعلها مع محيطها الإنساني العام.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.