أُتابع منذ فترة ردود الفعل السريعة للحكومة الفرنسيّة، على تقارير أوضحتْ زيادةَ نسبة الفقراء في فرنسا بشكل ملحوظ، مدعومةٍ بدراسات تُؤكّد أنّ الأوضاع الاقتصاديّة أثّرت سلبًا في تغذية حُزمة من أبناء الشعب، لم يعُد المواطن فيها قادرًا على شراء الأطعمة ذات القيمة الغذائيّة العالية. تَسارعَت التحركات، ووُضعت الخطط قيد الدراسة، وأُعلنت خلال فترة زمنيّة قليلة، خُططٌ تَحمل بنودًا لمحاربة البطالة، وتشمل زيادة الدعم الحكوميّ، والتركيز على الشباب، إضافة إلى توزيع وجبة غذائيّة يوميّة على طلّاب المدارس في كلّ المراحل الدراسيّة؛ لضمان حصول الطفل الفرنسيّ على وجبة قيّمة، تحوي العناصر الغذائيّة المطلوبة، حتّى وإن لم يتمكّن الأهل من توفيرها.
أظهرَت لي سرعةُ استجابة الحكومة الفرنسيّة، حجمَ الخوف الذي اعتراها من تسلّل الفقر إلى المجتمع، وشعرتُ بالأسف لحال أوطاننا العربيّة التي قضم الفقر أطرافها وأضناها إعياءً. فقرٌ ليس كالفقر الذي خافت منه فرنسا، فقرٌ آخر لا يُشبهه بتاتًا.
يُعرَّفُ الفقر بأنّه العوز والحاجة، والفقير هو الفرد الذي لا يكفي دخلُه لتأمين احتياجاته الرئيسة، مِن مأكل وملبس ومسكن وتعليم وصحّة. إلّا أنّني أرى أنّ كلمة فقر بنفسها، لا تصف حال الكثير ممّن تخطّوا حاجز الفقر إلى العدَم.
لقد تَغيّر الفقر منذ عقدَين تقريبًا، وتدَهْور حال الفقراء بشكل متسارع، وهذا ما يراه كلّ مراقب لأحوال الناس من كَثب عبر السنوات. فإنْ كنتَ من أبناء الأوطان التي أنهكها الفقر، ولم يَدفعْك فضولك ورغبتك في المعرفة إلى التجوّل في ربوع وطنك، بِمُدنه وقُراه وأحيائه السكنيّة المكتظّة، وإلى لمْس أحوال الناس البالغة السوء؛ يكفي أنْ تجلس في منزلك، وتشاهد من شرفتك، الأطفال الذين يبحثون عن لقمة لهم في حاويات القمامة، وتستطيع أيضًا أن تتابع بعض الإنتاج السينمائيّ والتلفزيونيّ، وتقارنه بما كان يُعرض قبل عقدَين من الزمن.
المتابع الجيّد سيكتشف فورًا أنّ فقر الأمس ليس كفقر اليوم، وأنّ الفتاة التي كانت تظهر فقيرة على الشاشات، كانت تذهب إلى الجامعة وتتلقّى تعليمًا جيّدًا. وإنْ كانت متواضعة في مظهرها، ولا تستطيع مجاراة زميلاتها من سكّان المناطق الميسورة، فإنّ الأمل الذي ينفثه التعليم كان كافيًا لإعطائها جرعة من الصبر، الذي غالبًا ما كان يُثمر عملًا جيّدًا، يُحسّن أحوال الفتاة وينتشل أهلها من مستنقع الفقر. وهذا أيضًا حال الشابّ. فقد يمنعه الفقر من حياة كريمة في طفولته، لكنّه كان يستعيد حياته بعد أن يعمل أو يتعلم أو يسافر، فيُؤثّر تأثيرًا إيجابيًّا في محيطه، ويُخرج عائلته من دائرة الحاجة.
أمّا المتابع للدراما الحاليّة، أو المراقب لما يدور حوله، فإنّه يلاحظ فورًا كيف تَدهور حال الفقراء. فالطفل جائع ومُهمَل، والفتاة قد تبيع الممنوعات في الشوارع لتأمين الخبز لأسرتها، والشابّ سُدّت في وجهه كلّ أبواب الهروب. فلا تعليم جيّد ولا مهنة ولا وظيفة ولا سفر، بعد أنْ أُقفلت أبواب الترحيب بالمُهاجرين في العالم؛ بسبب موجات اللجوء الضخمة. فتجد الشابّ يستميت مِن أجل اللقمة لا أكثر، لا أُفُق أمامه ولا أمل يرتجيه، لا يُفكّر في مستقبله ولا حتّى حاضره. فكلّ ما يسعى جاهدًا لتأمينه هو اللقمة، وفي هذا يكمن الخطر الحقيقيّ.
اِنحدار التعليم، وخروج الشابّات والشباب من دائرته وقلّة جودته إنْ وجد، إضافة إلى التقصير الحكوميّ الفاضح في الخدمات، والإهمال المُخزي لجيوب الفقر؛ كلّ هذه العوامل فَتحت الباب على مصراعيه لوحش الجهل، الذي وجدَ مسكنًا له في مناطق الفقر المُدْقِع. فحَلّت الخزعبلات محلّ المنطق، والبلطجة محلّ القانون، بل سادت شريعة الغاب التي فَرَضَت منطق "البقاء للأقوى". فعمَّ الظلم، وزاد الإحساس بالقهر والغَبن والغضب.
زادت معدّلات الانتحار في كثير من الدول العربيّة، واستسلمت أعدادٌ كبيرة من الشباب لليأس والاكتئاب. وهذا مُنبّه خطير على أنّ الحالة باتت حرجةً، وأنّ خطّةً لمحاربة الفقر ليست ضروريّة فحسب، بل إنّها مُتأخّرة جدًّا. فالفقر هو ألدّ الأعداء للأوطان، وهو الهادم المُدمّر لمستقبل الشعوب، وهو الحاضن للتطرّف الذي يتغلغل خلاله بين فئات الشباب الغاضب، الذي لا شيء عنده ليخسره، الراغب في الانتقام من الفساد الذي سَرَقَ منه أدنى حقوقه الإنسانيّة، وحرَمَه أنْ يعيش حياة كالحياة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.