عندما يُثار موضوع المواطنة في مجالسنا في الخليج، فهي يا للأسف لا تخرج عن نطاق القبَلِية أو المذهبية. فالطفل لا يولد عليها، ولكن يتربى على معتقدات تتعلق بجماعات أو طوائف معينة، وتَحمل معها أيضًا أفكارًا وصورًا نمطية، تبدأ من الأسرة والأصدقاء والمدرسة ووسائل الإعلام، وأماكن العبادة مثل المسجد، والحسينية المعروفة في البحرين باسم "المَأْتم".
الطفل يبدأ بالسماع، ثم بالتلقين، الذي ينتهي به إلى التقليد. وعندما نجد مجموعة من الأسر التي لا تُحبُّ لأبنائها تَعلُّم ذلك داخل البيت، نجد التأثير ينطلق خارج أسواره، عبر الاختلاط بالرفاق في الحي السكني، أو في المدرسة التي تحولت مع مرور الوقت إلى مكان، يَصدر عنه من الأمراض والممارسات الاجتماعية ما لا يرضاه الأبوان، مثل الأسئلة التي قد تُطرح على الطفل هل كان ينتمي إلى هذا المذهب أم ذاك، أو إلى هذه الإثنية أم تلك!
هذه الاتجاهات المنحرفة، خرجَت إمَّا من هيئة التدريس، أو الطلبة الذين يأتون من خلفيات اجتماعية مختلفة، تُلزم بعضَهم بأحكام تُلازمهم مدى الحياة، أو تصبح بعد معاناة بسبب الإثنية وغيرها، نقطة تحوُّل وتغيير. وهو ما وُجد الْيَوْمَ في مدارس عربية كثيرة في الخليج، لا تخرج عن إطار التعصب في المؤسسة المدرسية؛ ما سهَّل عملية الالتقاط للطالب، وعمَّق مسألة اللاتسامُح، والتحدث بلغة تنتقد أو تنعت الجماعة الأخرى بمُسمَّيات تقليدية وعنصرية، مثل ما هو موجود في البحرين في الأحاديث الخاصة غير العلنيّة. إلا أن هذه الأوصاف النمطية والعنصرية، تطوَّرَت لِتَخرج بمُسمَّيات أكثر تميُّزًا مع أحداث الربيع العربي في العام ٢٠١١، فظهرت أوصاف بذيئة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، خدمة لمصالح تُفرِّق وتثير الصراعات داخل المجتمع، عبر زيادة سُعرات التطرّف والتميُّز بصور مختلفة، وبشكل يُحقِّر عِرق الفرد أو جنسه أو معتقده.
يا للأسف، هذا قاد إلى وضْع حواجز في كيفية التعامل مع هذه الجماعة دون غيرها، سواء أفي العمل كان أم في الدراسة أم في غيرهما، في عقاب جماعي على تمرُّدها في إبداء الرأي الحر، الذي يناقض رأي جماعةِ مَن تمسَّكوا بزمام السلطة وصُنع القرار.
لعلَّ ما جاء في كتاب المفكر الكويتي الراحل خلدون النقيب (تربية التسامح وضرورات التكامل الاجتماعي)، خير دليل على بعض النماذج والتصنيفات في بعض المجتمعات العربية في الخليج، مثل: قالب نمطي عِرقي: أسود/أبيض-فارسي/هندي/عربي/هُوِلِيّ/قَبَلِيّ؛ المقصود بالهولي هم سكان جنوب بر فارس، خليط عربي فارسي من أهل السنّة ينتمي أغلبهم للمذهب الشافعي.
وهناك أيضًا قالب آخَر نمطي طائفي: سني/شيعي-مسيحي/مسلم/يهودي؛ وهناك قالب نمطي عقائدي: مؤمن/علماني/شيوعي.
هذه التصنيفات تعكس المكون الحقيقي لمجتمعاتنا في الخليج، وتحديدًا في البحرين والكويت. ولا أجدها سلبية إطلاقًا؛ فهي واقع، ونحن نعرف بَعضنَا بعضًا، مثلما هو الحال في بلاد الشام والعراق وشمال إفريقيا. المشكلة هي في الاستعمال المسيء أو التمييزي، لهذه التصنيفات.
مثل هذه النماذج، تَبرز بصورة جليَّة في حالَتَي العمل أو الزواج، خاصة عندما تكون المعلومات غير متوافرة عن شخص ما، أي -بحسب خلدون النقيب- تَحكم هذه المعايير على الفرد، وكيفية التعامل معه. أيضًا عمليات التوظيف والترقي في القطاع الرسمي، كما في القطاع الخاص، قائمة على هذه التصنيفات التي أدت إلى التعيين البعيد عن الكفاءة، بل المَبنيّ على الولاء القَبَلِي أو المذهبي.
عندما سُئلتُ مِن قِبل مُراقب غربي كيف لي أن أربِّي أبنائي، الذين هم خليط من السنة والشيعة، أجبتُه: كما ربَّاني أهلي على التعددية، والخِيرَة فيما أختار، رغم التحديات الكثيرة. إلا أن هذا لا يمنع من القول: إننا ما زلنا نعيش في مجتمع يَصعب عليه التفكير بعقله. ولهذا، فإن السؤال عن مذهبي منذ الصغر وإلى اليوم، دائمًا يأتي ليحدِّد نوعية المعاملة، سواء في المدرسة أو العمل، ولا يقف السؤال عند هذا الحد، فيبدأ موضوع الأصول والأعراق، لتكتشف أن من يسألون هم أنفسهم عنصريون، أو ضحايا ممارسات التميُّز والعنصرية داخل المجتمع.
يبقى السؤال معلَّقًا: "مَن الشيعة؟ ومَن السُّنّة يا أبي؟". إذْ نجحَت مجتمعاتنا في بث خطابات التوتر، بدلًا من خطابات تحثُّ على مهارات الحوار والديمقراطية والتسامح، من داخل البيت، ووُصولًا إلى المدارس وغيرها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.