يورد الكِتاب المقدَّس رواية النَّبيِّ السَّابق للمسيح (يوحنَّا المعمدان)، الَّذي لم يَسكت عن زواج هِيرُودُس أنتيباس (الملِكِ اليهوديِّ المعيَّن من قِبل الرومان على الجليل وبيريا)، من هيروديا زوجة أخيه فِيلُبُّس، ولم يقبل أيضًا سائر أعمال هذا الملك: "لجميع الشُّرور الَّتي كان يفعلها" (لوقا 3: 19). ويتحدّث نصُّ الإنجيل بِعِيد ميلاد هيرودس، وسُروره برقْص سالومي ابنة هيروديا، حيث وعَدها بأن يعطيها ما تَطلب. فما كان من الابنة إثْر تحريض والدتها لها، إلَّا أن طلبت رأس يوحنَّا المعمدان. فقُطِعَ، وحملَته على طبق إلى أمِّها!
رواية أخرى يرويها الإنجيل، عن السَّاعات الَّتي سبقت صَلب المسيح، تشرح إنكار بطرس -الذي أعطاه المسيح دورًا قياديًّا بين التلاميذ- له 3 مرات، تحت ضغط الخوف من اضطهاد اليهود، الَّذين كانوا قد قبضوا التَّوَّة على معلِّمه بهدف صَلبه (لوقا 22: 56-62).
تُشكِّل الرِّواية الأولى مثالًا قويًّا على السُّلوك الأخلاقيِّ الصَّحيح، الَّذي لا يسكت عن الخطأ، بل يُشْهره ويطالِب بمنعه أو العدول عنه، حتّى ولو كلَّف ذلك صاحبَ هذا السُّلوك دفْع حياته ثمن قوله للحقيقة. أمّا الرِّواية الثَّانية، فتُشكِّل مثالًا على ضعف الطَّبيعة الإنسانيَّة لبطرس، الَّذي أنكر معلِّمَه. وهو من قال عنه قبْلًا: إنَّه "المسيح ابن الله الحيُّ" (متى 16: 16)؛ تحت وطأة الخوف والحرص على حياته.
في قراءة ثانية معاصرة، ربّما بعيدة عن التَّفسير المسيحيِّ التَّقليديِّ لهذَين الحدَثَين، قد يقول قائل: إنَّ سلوك بطرس في إنكاره هو سلوك حكيم. فما الفائدة لو كان ألقي القبض عليه ولقي حتفه؟ بُطرس الَّذي أنكر المسيح وتلقَّى توبيخه على هذا الإنكار، عاد فصار أحد أهمِّ أعمدة الكنيسة النَّاشئة، ومبشِّرًا حقيقيًّا بالمسيح ورسالته، متلقِّيًا الاضطهادات المتكرِّرة، ودافعًا حياته في نهاية المطاف مصلوبًا بالمقلوب، ثمنًا لما آمن به ودافَع عنه. حكمة هذا السُّلوك الَّذي تَجنَّب ضررًا عابرًا بإنكار المسيح، لِيَضطلع صاحبُه لاحقًا بدورٍ رئيسٍ، أنَّ غيابه عن المشهد -لو لم ينكر المسيح-، لرُبّما كان قد غيَّر مسار انطلاقة الكنيسة الأولى وقوّتها.
قد تُشْبه مقارنةُ فعل يوحنَّا المعمدان بِفعل بطرس الرَّسول، المقارنةَ في حياتنا اليوميَّة في التَّعاطي مع الشُّرور ومع ما هو غير أخلاقيٍّ، بين المثاليِّ والواقعيِّ -إن صحَّ التَّعبير-، وبين ما يجب فعله وما يمكن فعله. وهو صراعٌ يبدو في الكثير من الأحيان صراعَ أبيض وأسود، حين نواجه بعض ما على هذه الأرض من صراعات، وديكتاتوريَّات، ومقاربات أنانيَّة أو فاسدة للشَّأن العامِّ، كالفرق بين قرار مواجهة الخطأ صراحةً وجهًا لوجه، والانحناء المؤقَّت أمام عُنفه وتَعسُّفه، للانصراف إلى مواجهته بأسلوب آخر، ونقْضِه من الدَّاخل.
القضيَّة شائكة، وتُوقِع كثيرين/ات في أحكام قاسية تجاه الطَّرف الآخر. فالمثاليُّون يتَّهمون الواقعيِّين بالخيانة وضعف الموقف ومهادنة الشَّرِّ، في حين يتَّهم الواقعيُّون المثاليِّين بالطُّوباويَّة وقلَّة الحكمة والتَّهوُّر، وتوفير أسباب العنف لأمثال هيرودس، بمواجهتهم إيَّاهم صراحة دون مُوارَبة.
يبقى التَّفريق بين السُّلوكَين أخلاقيًّا، أمرًا خطيرًا وليس هيِّنًا على الإطلاق. فهو شديد النِّسبيَّة، وينتابُه خطر الانزلاق في الشَّرِّ والمشاركة فيه بدل مواجهته. فنرى مسؤولين سياسيِّين ورجال دين وغيرهم، يَخطبون ويعظون في أحقِّيَّة موقف يوحنَّا المعمدان وأمثاله، ويَدينون ضعف بطرس في إنكاره، في حين ينصرفون هُم في سلوكهم اليوميِّ المعاصر، إلى دعم الفساد والتَّرويج لديكتاتوريَّات، تُمارِس القتل والتَّعذيب والخطف، في مفارَقة مُدهِشة بقدر ما هي مُحزِنة بشدَّة. فيقع بعض أصحاب النَّوايا الجيِّدة منهم، في فخِّ عدم تمييز الخطِّ الرَّفيع، الفاصل بين تحوُّل الواقعيَّة وما يمكن فعله في مواجهة الشَّرِّ من أمر أخلاقيٍّ له مبرِّراته، إلى انخراط في الشَّرِّ والعمل لمصلحته، والاستفادة من المكاسب التي يقدِّمها.
ليست هذه -على كلِّ حال- دعوة إلى الموت "المجَّانيِّ" في مواجهة الشَّرِّ، ولا إلى إنكار الحقِّ، أو العدول عن مناصرته بحجَّة الواقعيَّة، ولكنَّها دعوة إلى تفهُّم السُّلوك الَّذي يَضطرُّ صاحبَه إلى التَّعامل مع ما هو غير أخلاقيٍّ، من أجل السَّعي نحو خير أكبر وأشمل. وهو بذلك يلتقي في الجوهر -ولو عن غير قصد سابق كما في حالة بطرس- مع سلوك يوحنَّا المعمدان.
هذان السُّلوكان -إن أحسنْتَ ممارستهما بالتَّمييز الدَّقيق والتَّصرُّف الحكيم-، يصبحان مكمِّلَين لبعضهما بعضًا. فنحن في حاجة على الدَّوام إلى أصوات نبويَّة، واضحة ومباشرة وغير مُهادِنة، تُضيء لنا مَكامن الخير والشَّرِّ. ثم إنَّنا في الوقت عينه، في حاجة إلى أصوات أخرى تتعامل -ضمْن حدود- مع الواقع المفروض علينا، لتُغيِّره على طريقتها، وتؤسِّس لِمَا هو خير عن طريق سياسة الـ "خطوة خطوة"، دون الانزلاق في التَّماهي مع الشَّرِّ.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.