تعرَّفتُ منذ أسبوعين، في إطار حلقة دراسيّة بمدينة الرّباط في المغرب، إلى رجل دين أوروبِّيٍّ مسيحيٍّ، وإلى زوجته الأفريقيّة المُسْلمة. تحدَّثنا طويلًا حول الزَّواج المختلَط، وأثار انتباهي أنَّهما كانا يبدُوَان سعيدَين جدًّا لدرجة الاغتباط. فأسَرَّا إليَّ أنَّ حياتهما ملْأَى بالحبِّ والعطف، لأنَّهما كرَّساها معًا للرِّعاية الإنسانيّة، من أجل مَن يعانون في مناطق التَّوتُّرات بأفريقيا.
تزايدت نسبة الزَّواج المختلط في سياق العَولمة والهجرة، اللَّتَينِ صنعَتَا فضاءات جديدة للعيش المشترك؛ ما أدَّى إلى تراجع حدود الثَّقافات والأديان، وقدرتها على منع الزَّواج من خارج حدودها. ويشكِّل الزَّواج بين مؤْمني/ات الأديان المختلفة تحدِّيًا للأديان، لأنه يطرح أسئلة مزعجة، حول قدرتها على تدبير العلاقة بين قدسيَّة المشاعر الإنسانيَّة وقدسيَّة الحقائق الدِّينيّة. أغلبُ الأديان تقُوم بترسيم الحدود الإنسانيَّة والعاطفيَّة للإيمان. لذا، تُحذِّر معتنقيها، وخصوصًا النِّساء، من الزَّواج خارج الانتماء الدِّينيِّ. ولهذا، فإنَّ الكثير من مؤْمني/ات الأديان، لا يزالون يتصرَّفون كما لو كانت الدِّيانات جماعات مُغْلقة.
في الفقه الإسلاميِّ، يجوز للمسلم أن يتزوَّج بغير المسلمة. لكن، بحسب حوار مع شيخ في جريدة الصباح المغربيّة، لا يجوز للمسلمة أن تتزوَّج بغير المسلم، "كي لا يخرج من رَحِمِ المرأة المسلمة مَن لا يدِينُ بدِين الإسلام"، وأيضًا لحماية الأمّة الإسلاميّة من انتشار غير الإسلام في وسط المسلمين/ات. في السِّياق نفسه، يَقْبل الفقه الإسلاميُّ زواج المُسْلم بغير المسلمة بهدف الإكثار من سَواد المسلمين/ات، ويَعتبر هذا الزَّواج أحيانًا نوعًا من الجهاد في سبيل الله.
بالنسبة إليَّ، فإنَّ الأمر يتعلَّق برأي فقهيٍّ مبنيٍّ على فهم بشريٍّ لنصٍّ قرآنيٍّ: {ولا تُنْكِحُوا المشركين حتى يُؤْمِنوا}، إذْ لا يمْكن فهْمه إلَّا في سياق تاريخيٍّ صراعيٍّ، لم يكن ليسمح ببناء علاقة إنسانيّة داخل انتماءات دينيّة مختلفة. لذا، لا يمْكن أن يتحوّل إلى قاعدة عامّة، ولا إلى إرادة إلهيّة. وأعتقد أنّ هذا الحكم أصبح متجاوَزًا في حاضرنا، وفي سياق الحرِّيّات الفرديّة، وحرِّيَّة العقيدة. وأيضًا تَزايد الوعي بقيمة القبول للآخر. وإنْ كانت الحرِّيّة من مقاصد الشَّريعة، فإنه وجَب الاجتهاد ومراجعة هذا الحكم التمييزيِّ، انطلاقًا من المبدأ القرآنيِّ حول المساواة بين المرأة والرَّجل في الأحكام والواجبات. ولعلَّ ما يدلُّ على مصادمة هذا الحكم الفقهيِّ للطبيعة البشريّة، وتكريسه للنِّفاق الاجتماعيِّ، هو أنّ الكثير من المسيحيِّين الَّذين يتزوَّجون بنساء مسلمات، يُضطرُّون إلى التَّحايل على القانون، ويقومون بتغيير دينهم شكليًّا، ويظلُّون سرًّا على عقيدتهم.
يجب أن يشمل الاجتهاد مسألة عدالة الأحكام الفقهيّة، عندما تُحْرم المسيحيّةُ المتزوِّجة بمسْلم ميراثَ زوجها، الذي شاركتْه في حياتها وقلبها، إنْ هي بقيَت على دينها ولم تعتنق الإسلام. لقد تجسَّد هذا الاجتهاد فعليًّا في قرار دولة تونس، إلغاءَ القانون الذي يمنع التونسيّات من الزَّواج بغير المسلم، وأعلنَت دار الإفتاء التونسيّة تأييدها للقرار. ولكنَّ هذا القرار، يظلُّ استثناءً في العالم الإسلاميّ.
لكن، يبقى السُّؤال الوجوديُّ مطروحًا: هل يجْمع الحبُّ ما يفرِّقه الدِّين؟ يبقى الزَّواج المختلط غالبًا تجربة فاشلة ومؤلمة، بسبب الضُّغوط العائليّة الَّتي يتعرَّض لها الزوجان، حيث يتحوّل الزَّواج إلى علاقة هيمنة، كما لو كانت الأديان والثَّقافات غير مستعدَّة بعْدُ، لتعيش وتُبارك تَجارب تُهدِّد أوهام تميُّزها وتفوُّقها. لكن، يبقى الإشكال الأكثر حدَّة، هو التَّربية الدِّينيَّة للأطفال ومسألة انتمائهم الدِّينيِّ. إشكالٌ كثيرًا ما يؤدِّي إلى اضطراب ثقافيٍّ عميق لدى هؤلاء الأطفال. لكنّ هذا النَّوع من الزَّواج يظلُّ تجربة عميقة، يمكن أن تسمح بنشأة جيل جديد من المؤمنين/ات، يبْنُون انتماءهم/هنّ على الاختيار الحرِّ.
يَطرح الزَّواج المختلط على الكثير من المؤمنين/ات أسئلة مزعجة، لكنَّها أساسيَّة: أيُّهما أكثر قداسة: الدِّين أم الحبّ؟ أليست قِيمتَا "المودّة والرّحمة" بين الزَّوجين، تجسيدًا إنسانيًّا للإرادة الإلهيّة، وأكثر أهمِّيَّة من مسألة الانتماءات الدِّينيّة نفسها؟ أليست حرِّيّة اختيار العقيدة الممكنة داخل الزَّواج المختلط، فرصة لكلِّ الأديان كي تتصالح مع الحداثة والأزمنة الحديثة؟
لا يزال بعض المسلمين/ات يعتبر المرأة المتزوِّجة بغير المسْلم امرأة زانية؛ أمّا أنا، فأقول: إنَّ المرأة التي رأيتُها مع زوجها لم تكن زانية، بل امرأة فاضلة يملأ الحبُّ والخير قلبها. وأتوجَّه إليهما داعيًا: "بارك الله زواجكما، وليكن الحبُّ طريقكما إلى الله"!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.