في يوم المرأة العالمي، أُعيدُ متابعة الفيديو الذي انتشر، لحادثة قتل الشابّة العربيّة على يد أخيها ووالِدها في تُركيا، والتي وثّقَتها كاميرا مُثبَّتة على الحائط المقابل لموقع الجريمة، إذ تُرمَى الضحية مِن الطابق الثالث، ثم ينزل الأب والابن للتحقُّق من أنّها ماتت، فيكتشفان أنّه ما زال فيها رمَقٌ من حياة، فيُجْهز عليها الأخ خنقًا، ثم يُعاودان حمْلها إلى الطابق الثالث ورميها مرّة أخرى.
الجريمة مُخيفة، ليس بسبب فكرتها فقط، أو تصنيفها تحتَ ما يُسمّى "جرائم الشرف"؛ بل إنّها مُروِّعة بتفاصيلها، إذ إنها جرَت على عدّة مراحل: رمْي الفتاة من ارتفاع عالٍ، والنزول للإجهاز عليها خنقًا بعد اكتشاف أنّها ما زالت حيّة، ومُعاودة حملها مرّة أخرى إلى الشقّة، ورميها بالطريقة الأولى نفسها. فلم يكُن القتل في خطوة واحدة لا يُمكن التراجع عنها، كأنْ يحصل القتل برصاصة مثلًا، بل وقع في مراحل مُتعدّدة، كان يُمكن لأحد القاتِلَين في أيّ منها أنْ يتراجع، أو أنْ يَشعر -ولو لحظةً- بتأنيب ضميره، أو أنْ يتفجّر بداخله شعورٌ كتَمَه الحقد الأعمى، خصوصًا عند رؤية الضحيّة على الأرض بين الحياة والموت.
فكرةُ أنّ عاطفة الأُبوّة لم تتحرّك في لحظتها، هي فكرةٌ أبعدُ ما تكُون عن أيّ قيمة أخلاقيّة وإنسانيّة ممْكنة. ومِن الطبيعيّ في وقتٍ ما أنْ يمرّ شريط حياة المسكينة ببال الأب، وأنْ يتذكّر كيف حمَلَها وهي لا تزال طفلة، وكيف كانت ضحكتها الأولى، وخروج سِنِّها الأولى، وأوّلَ مرّة قالت فيها "بابا"، وكيف كانت تركض لترتمي في حضنه عند عودته مِن العمل. كان مِن البديهيّ أنْ تتحرّك في داخله مشاعر الأبوّة الحانِيَة، وأنْ ينهض ضميره المُنوَّم مغناطيسيًّا، فيدفع ابنه القاتل، ويغمر ابنته في حضنه، أنْ يبكي، أنْ يعتذر، أنْ ينتحب لسوء ما ارتكب وما سمح بأنْ يُرتكب.. ولكنّ ما حصل كان أمرًا مُغايرًا؛ إذ وقفَ كالميّت مِن الأحاسيس، يُتابع ابنه وهو يُجْهز عليها خنقًا، ابنه الذي هو أخوها. نشَأَا في منزل واحد، لعبا معًا، جلسا على مائدة واحدة، تقاسَما لحظات الفرح والحزن والغضب والنجاح والحبّ.
مَشاهدُ متشابهة في ترويعها، رأيناها في عملية قتلِ أخٍ لأخته في مناطق الحرب في سوريا، وسط تشجيع مِن الحاضرين ثأرًا للشرف، حيث أفرغ المُجرم ما في جَعبته من رصاصات في جسد أخته، مُختالًا فرحًا. ومشاهد أخرى لا تقلّ رعبًا، قامَ بها لاجئ في إحدى الدول الأوروبية، حيث صوّر بنفسه عمليّةَ طعن أخته، وهي تتأوَّهُ وتحتضر، وهو ينظر إلى الكاميرا لاعنًا إيّاها، فخورًا بأنّه ثَأَرَ لشرفه بيده.
كلّ ما رأيناه موثّقًا بالصوت والصورة، ليس إلّا نقطةً في بحر الجرائم التي جرت منذ عقود طويلة، انتُزعت فيها الحياة عَنوةً مِن أرواحٍ بريئة، ولم يُعاقَب أحدٌ من مرتكبيها، بل خرج المجرمون يُعلنون غسل العار بالدم بكلّ فخر، فيُكمل كلٌّ منهم حياته وكأنّ روحًا لم تَكُن.
في يوم المرأة العالمي، نتذكر أننا ما زلنا نعيش في مجتمعات ذكوريّة صِرفة. المرأة متّهمة حتى تَثبتَ براءَتها. رسالة كيديّة مِن حاقد أو حاسد أو كاره، قد تَكسر زجاج سُمعتها إلى الأبد، وتَسحقُ زهرة شبابها التي لم تتفتّح بعد. أمّا الجلّاد، فهو المنزَّه عن الخطأ، علاقاته المتعدّدة مَدعاة للفخر وإثبات للرجولة، هو المُجْرم والقاضي في آنٍ معًا. وأمّا القوانين، فهي متساهلة متسامحة مع الفعل، تُعطي ضوءًا أخضرَ للتّمادي في قهر المرأة على استحياء، وإنْ تغيَّرَت في السنوات الأخيرة لتبدو أكثر حسمًا. ثم إنّ من المبكي أن تُسجَّل أكثرُ حالات ما يسمَّى بجرائم الشرف، في دول يُنهكها الاحتلال أو الحرب، إضافة إلى الفقر المصاحِب لهما، فيتضاعف الظلم القابع فوق أنفاس الإناث.
في يوم المرأة العالمي، أتحدَّث بِاسْم المرأة، التي لا تَعرف من أيِّ باب سيأتيها القهر أو القتل أو الظلم. أتحدَّث بِاسْم كلِّ أنثى، تعيش حياتها في دوامة من الرّعب والقلق، والشعور بالضعف، والخشية من المستقبل.
أتساءل عن الظلمات التي نعيشها في عالمنا العربي، وعن مشاكلنا التي لا حصر لها، وأوضاعنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المتعبة، ونحن نُمعن في ظلم مَن هو أضعف منّا. يُراقب المرْء زلّات غيره، والذنوبُ والخطايا تُغرقه من رأسه إلى أخمص قدَميه. فمتى نقوم من جهلنا، ونمسح عن أكتافنا غبار عاداتٍ جاهليّة ورثناها؟! ومتى نُنصف صغيرنا وضعيفنا؟! ومتى ندَعُ الخلق للخالق، ونكتفي بمراقبة أنفسنا وتقويمها، علّنا نُفلح يومًا؟! ومتى سنحتفل حقًّا بيوم المرأة؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.