لن تستطيع أنْ تتمالك عن ذرف دموعِك، وأنت تُتابع "فيديو" لسيّدات عربيّات من ذوات البشرة السمراء، يصِفْنَ معاناتهنَّ ومعاناة أبنائهنّ في بلد عربيّ، بسبب العنصريّة ولون البشرة. تصفُ امرأةٌ منهن ما تتعرّض له في الشارع، من تحرّش لفظيّ يتطوّر إلى الملامسة، معَ نعتِها بكلّ الأوصاف القبيحة، ويزداد الأسى عندما تسمع بمعاناةِ أطفالها الصغار في الروضة، وتَطاوُل زملائهم عليهم بالإهانات؛ لمجرّد فارق اللون. القصّة نفسها ذكرَتها امرأة أوروبيّة من أصل إفريقيّ، وجدَتْ وزوجها عملًا في إحدى الدول العربيّة، لتعود بعد أقلّ مِن سنة وتكتب عن تجرِبتها القاسية، وخصوصًا عمَّا تعرّض له أبناؤها من زملاء المدرسة.
تُقلِّبُ صفحات الجرائد، فتقرأ خبرًا مؤسفًا عن انتحار مراهق؛ بسبب تَنمُّر زملاء الدراسة له لِتشوُّهٍ خَلْقيّ يُعانيه، ولم يكُنْ قد مضى وقتٌ طويلٌ على خبر انتحار فتاة؛ لتعيير زميلاتها لها بمستواها الاجتماعيّ. وتتوالى القصص الحزينة، القصّة تلو القصّة، حتّى تصلَ إلى محيطك العائليّ. فهذا قريب لك جرى رفضه من قِبل عائلة حبيبته؛ بسبب جذوره أو أصوله أو طائفته. والغريب أنّ الشابَّ والفتاة من البلد نفسه، بل يقطنان في الحيَّ عينه، ويعرف أهلُهما بعضَهما بعضًا جيّدًا، إلّا أنّ الرفض حدَثَ لأمرٍ خارج سيطرة أفراد العائلتين، وهو خاصٌّ بالمجتمع وقوانينه وأنظمته، التي لا تمُتُّ إلى الأديان بصلة، مثل أن الخاطب: فلّاح، أو مدنيّ، أو بدويّ، أو من الشمال، أو من الجنوب، أو أسود، أو أبيض، أو غنيّ، أو فقير... وتتعدّد الأسباب، والمنبع الآسِن واحد، إنه العنصرية والتعالي على الآخرين.
العنصريّة والطائفيّة والطبقيّة، كلّها أوجه للكراهية البغيضة وعدم تقبّل الآخر، بذورها النتنة -يا للأسف- مزروعةٌ في كثير من البيوت، تتوارثها الأجيال بصمت، وتُغطّيها حالة من الإنكار، بل قد تظلّ في سُبات لتظهر فجأة في موقف معيّن، كاشفةً الوجه الحقيقيَّ الذي حاول صاحبه تغطيته بأقنعة. آثارها مُدمّرة، سواء في الطرف المُتلقّي الذي تحفر العنصريّةُ في قلبه نُدُوبًا وجروحًا لا تبرأ، وقد تتحوّل في حالات الظلم إلى غبن وحقد على المجتمع كلّه، أو في طرف الشخص العنصريّ نفسه، الذي تكفيه الكراهية في حدّ ذاتها، كعقاب يمنعه من تَبصّر الحياة وفهمها، وأيضًا فإنَّ الكراهية لن تجذب إليه المحبة، فيبقى معزولًا محرومًا ماءَ الحياة وغذاءَ الروح، أي الحُبّ.
لعلَّها ليست مصادفة، أن يجتمع الاحتفال باليوم العالميّ لمكافحة التمييز العنصريّ مع يوم الأم، وكأنها رسالة تدعو إلى محاربة الكراهية، وتمجيد الحب. الاحتفال بيوم الأم، مُناسبة تمنحنا الفرصة لإدراك معاني الأُمومة الشاملة. الأُمّ هي الرحمة والإيثار والتضحية، وتلك المعاني السامية هي الأعمدة التي تُرفع عليها البيوت، ليتخرّج فيها الإنسان السويّ. فإنِ اهتزّت تلك الأعمدة، انهارت لَبِناتُ المجتمع الرئيسة. هي فرصة للرجوع إلى مبادئ الإنسانيّة من رحمة وعدالة وحبّ، هي فرصة لنرفع صوتنا عاليًا ضدَّ الكراهية بكلّ أشكالها. فالأُمُّ هي الحُبُّ بأروع أشكاله.
لا يمكن أنْ تُحبَّ الله ما لم تحبَّ كلَّ الخلائق. الإيمان الحقيقيّ أنْ تترفَّعَ عن التعالي على الناس، بسبب صفات أو ميّزات وَهَبَها الله لكَ دون حولٍ لك أو قوّة، مثل: لونك، ودينك، وعشيرتك، ومالك... فكيف تشعر بالتفوُّق والتفاخر والتفاضل على الآخرين بسببها، وأنتَ نفسُكَ لو أتيت إلى هذه الدنيا في مكان آخَر من العالَم، لكان لك اسمٌ أو لون أو قبيلة أو دين مختلف؟
بعضهم يطلب من الله ما يرفض تقديمه لأخيه في الإنسانية، ويتوقّع من الله جلَّ جلاله الاستجابة، يطلب منه الرحمة وهو لا يرحم، ويطلب منه حياة عادلة وهو يُمعن في ظلم المُختلف عنه. فليتَّعظْ هذا الإنسان قبل أنْ تُعلِّمه الحياة دروسها الصعبة، فترميه بالحجارة التي رُميَ بها الآخرون.
آتون إلى هذه الدنيا كضيوف. لِتكُنْ إقامتنا فيها إقامةَ عطاء وحب، لنكُنْ غيومًا ماطرة تترك خلفها زرعًا أخضرَ مُثمرًا. لا يُمكن للأشواك التي تُزرع في بيوت بعضهم أنْ تزهر، بل إنَّها ستنمو لتقضي على زارعها أوّلًا. نحن أغنياء بما نعطي لا بما نأخذ، ولنا في عطاء الأم وإيثارها مثال يُحتذى .
كلّ عام وأمهاتنا بألف خير، كل عام ونحنُ جميعًا أخوةٌ وأخوات في الإنسانيّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.