"البونيان" مصطلح بَحْرَينِيّ لتعريف فئة من التجّار الهنود، الذين قَطنوا بالبحرين قبل اكتشاف النفط، أي قبل العام 1932. وهذه الفئة كانت حلقة وصل بين سُوق البحرين الغنية آنذاك باللؤلؤ، وسوق الهند الكبيرة المعتمِدة على الذهب. هذه الفئة كانت معروفة بمستوى الثقة العالية، بكلمتها وتعهُّداتها واتِّفاقيّاتها. ولذلك، كان تجّار البحرَيْن الأقدمون، يفضِّلون التعامل معهم حتى من دون اتِّفاقيات مكتوبة، لأنهم كانوا يحترمون أيّ كلمة يتَّفقون عليها. هكذا، بدأت العلاقة بين هذه الفئة ومجتمع البحرين التجاري منذ حِقَب تاريخية طويلة، اتصلت بخرز اللؤلؤ وصياغة الذهب في سوق المنامة القديم، وتحديدًا في سوق باعة اللؤلؤ "الطَّوَاويش".
يمكنك التعرُّف إلى "سوق الطواويش" من خلال شارع صغير، يأخذك في أحد أزقَّته الضيِّقة إلى منزل بَحرَينيّ تقليدي، كانت تمتلكه إحدى العوائل المَناميَّة العريقة في مجال التجارة. هذا المنزل الذي يملكه تاجر بَحرينيّ مسلم، استُخدم وبإذن من أصحابه -حسب روايات أهل المنامة-، لممارسة الشعائر الهِندوسية لِلتجّار الهنود وعوائلهم، الذين كانوا مِمَّن يأتون إلى البحرين لفترات متقطِّعة عبر المراكب والسفن من الهند، أو مِمَّن عاشوا مع أُسَرهم في البحرين.
وعلى هذا، فإنّ وجود مكان لممارسة طقوسهم الدينية كان أمرًا لا بد منه، ويَعكس مدى تفهُّم عوائل المنامة من المسلمين، وعيشهم مع الأديان الأخرى على مرِّ الزمن، ويتمثَّل بوجود مَعبد في وسط سوقهم القديم. وهكذا، تَحوَّل هذا المنزل مع مرور الوقت إلى دار عبادة للطائفة الهندوسية، ويبلغ عمره نحو 200 عام، وهو اليوم ما زال يحافظ على بعض من ملامح المباني التقليدية، بوجود باحة كبيرة "الحَوش"، إضافةً إلى وجود بعض الرسوم المقدَّسة للهندوس، وعتبات السُّلَّم العالية، التي توصلك إلى الغرفة العليا المقدسة، ومكان مراسم الصلاة، والمكتبة، وغيرها من الأقسام الأخرى.
الهنود في القرن التاسع عشر، كانوا يقصدون البحرين باعتبارها الوجهة الرئيسية لتجارة اللؤلؤ الطبيعي في منطقة الخليج. ومن ثَمّ بدأت تترحَّل بين المدن الواقعة على طول الساحل الشرقي للخليج.
لقد عاش أهل المنامة معًا بشكل متناغم وانسيابي مع الهندوس في نفس الأحياء، مثل أحياء: "الحطب"، و"الفاضل"، و"المخارقة"، و"العوضية"؛ ليكونوا قريبين من السوق، ومن مَعبدهم. وأيضًا كانت لهم مشاركات ووقفات مع أهل المنامة في مناسباتهم الدينية المختلفة، مثل الأيام العشرة الأولى لعاشوراء، التي يشارك فيها الهندوسيُّون مع الآخرين، عبر تقديم بعض المساعدات فيما يُعرف بمَضايف الإمام الحسين بن علي، أو عبر سكب الماء والعصائر وتقديمها للمعزِّين في مواكب العزاء.
هناك الكثير ممَّا يتشارك فيه المسلم مع الهندوسي عبر خمسة أجيال متتالية، من خلال العوائل المعروفة، التي لا يُمكن أنْ تلمح إعلانًا أو مُعلَّقًا على المحلّات داخل باب البحرين والسوق القديم، إلّا ويتضمّن بعض أسمائها، مثل: "كيلورام"، "جاشنمال"، "كاجريا"، "دي آي"، "هاري داس"، "جونيلال"، "كافالاني"... واليوم، يَفتح المعبدُ الهندوسي في حيِّ الطواويش، الذي يسمِّيه بعضهم بالهند الصغيرة "ليتيل إنديا"، بابَه لغير المسلمين، للمشاركة السَّنويّة في بعض مناسباته الدينية، مثل "ديوالي" وهو عيد الأنوار؛ إذ يبدأ الهندوس فيه بإشعال الشموع على طول الطريق المؤدي إلى مَعبدهم، داخل الزُّقاق الضيِّق من حيِّ الطواويش، في حين يبدأ عيد الألوان "هولي" مع بداية موسم الربيع.
البحرَينيُّون والهندوس، يُشاركون بعضهم بعضًا في الأفراح والأحزان. وفي الأسبوع الماضي، تُوُفِّي عميد أسرة "تولورام كافالاني"، وهو أحد أعمدة القطاع الصناعي في البحرين. كافالاني الذي عاش حتى عمر ناهز 91 عامًا، اصْطحبه والده في العام 1928 إلى البحرين، وهو لم يتجاوز العامين، في الوقت الذي كانت فيه العلاقات التجارية تربط بين عائلته في الهند، وعوائل تجارية في البحرين، منذ العام 1850.
لقد اجتمع الهندوس حول كافالاني ليشيِّعوه في مراسيم خاصة بهم، تبدأ بمحرقة خاصة للجثمان، ثم بعقد اجتماع التأبين في مكان معيّن بعد ثلاثة أيام. وفي الوقت ذاته، استقبلت أسرة كافالاني المعزِّين من أصدقاء العائلة من الهندوس والمسلمين وغيرهم، من دون أن يُعتبر ذلك حدثًا غريبًا، وذلك لأن من سِمات أهل البحرين العيش معًا والتسامح. وأقول كما كان يُكرِّر جَدِّي (رحمه الله): "كُنَّا نُسلِّم بالهندية، وكانوا يسلِّمون بالعربية. بيوتهم ملاصقة لبيوتنا. معًا نعمل، نفرح، نحزن. هكذا كُنَّا، وسنبقى كذلك".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.