تنطلق الأديان الإبراهيميّة الثلاثة (اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام)، من معتقَد الإيمان بالتوحيد، بمعنى أنَّ المعبود الوحيد بِحقٍّ هو الله. لكنَّنا نستطيع قراءة التَّوحيد قراءةً أنثروبولوجيَّة تنطلق من الإنسان؛ لا على اعتبار أنَّه إله، بل بمعنى أنَّ التَّوحيد -تاريخيًّا- هو دعوة إلى تَحقُّق قيمة الإنسان في ذاته. فيتحقَّق التَّوحيد بِتحرُّر الإنسان من التَّعلُّق بغيره -مَدحًا أو ذمًّا-؛ ما يستوجب كمال نفسه، كي تصبح نفْسًا تُعطي من غير شرطٍ. فهي لا تُريد لذاتها شيئًا، ولا تبحث عن ذاتها، بل تريد العطاء من أجل العطاء.
إنَّ قيمة الإنسان الَّذي يصل إلى هذه الحالة، نَعثر عليها في العالم الدَّاخليّ، وليس في الخارجي، متحرِّرًا بذلك من كلِّ مصلحة، أو حاجة إلى المديح وتصفيق الناس له. وصاحب هذه النَّفس الكاملة، هو أرفعُ الناس. فكما قيل: "عِزَّ نفسَك تجِدْها". وبهذا يصبح توحيد الله ليس مجرَّد كلامٍ يكرِّره المؤمن، أو طقْسٍ مفصول عن حياة الإنسان، بل هو توحيد لا يتحقَّق إلَّا بعمل الإنسان على كمال ذاته، وتحريرها من كلِّ تَعلُّقاتها الخارجيّة؛ إذ الإيمان بالله هو عملٌ تَحرُّريٌّ قبل كلِّ شيء. لذلك، بدأت صيغة الشهادة في الإسلام بنفي كلِّ التَّعلُّقات. فهي في أوْلوِيَّتها شهادةُ: "أنْ لَا إله". وحين يتحقَّق هذا التَّحرُّر من كلِّ متعلَّقٍ به، يَظهر الله، فتُصبح شهادة: "أَنْ لَا إله إلَّا الله".
قد يبدو الحديث في القيمة الذَّاتيَّة للإنسان حديثًا عابرًا؛ لكنَّنا إنْ تأمَّلْنا في واقع الناس، نجد كثرة المتعلَّقات الَّتي تَحكُم حياة الكثيرين. فكم من النَّاس مَن يُعرِّف قيمتَه من خلال وظيفته! فإذا ما خسِرَها، اكْتَأبَ وفقَدَ ثقته بنفسه. وكم منهم مَن يُعرِّف قيمته من خلال علاقاته الاجتماعية والأُسَريَّة! فيَشعر بأنَّ نفسه قد صَغُرت، إنْ تَخلَّى عنه صديق أو زوج أو قريب. ولكن، كلَّما حدَّد الإنسان قيمته من خلال ذاته، أصبح متحرِّرًا من العالم الخارجيِّ. وحينها يصبح في مَقدُوره أن يسأل: "ما الَّذي أريدُ أن أقدِّمه لمن حولي؟ وما الَّذي يحتاج إليه مَن حولي مِنِّي؟". وذلك بدَلًا من السُّؤال: "ما الَّذي يريد أن يقدِّمه لي مَن حولي؟ وما الَّذي أحتاج إليه مِمَّن حولي؟". حينها، تصبح علاقة الإنسان بمن حوله غَيْر مَحكومة بالمَصالح، بل بإرادة العطاء. وإرادةُ العطاء غير المشروط هذه، هي بعينها جوهر مفهوم الحُبِّ.
يظنُّ أكثر النَّاس أنهم يَخْبُرون المحبَّة إنْ حصلوا عليها. لكن، الحقيقة تَكمن في أنَّ الَّذي يُعطي الحُبَّ، هو الَّذي يَخْبُره. فحين حدَّد القرآن علاقة الإنسان بالله، على اعتبار أنها علاقةُ محبَّة: {يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه} [سورة المائدة: ٥٤]، قرَّر أنَّ محبَّة الله لا تتحقَّق، إلَّا إنْ كان الإنسان هو يد المحبَّة، الَّتي تُعطي بدون شرط أو حساب. فمحبَّة الله ليست مجرَّد كلامٍ نظريّ، بل واقع تَشهد عليه مَواقفُ الإنسان وأعمالُه.
لكن، كيف الطَّريق إلى تحقيق هذه النَّفس الرَّبّانيَّة، الَّتي تسعى للعطاء فقط؟
إنَّ الكلمة المفتاحيَّة في علم النَّفس، للوصول إلى كمال الذَّات، هي الشُّكر. فحين يقول القرآن: {لَئِنْ شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم}، فهو لا يَقصد الزِّيادة المادِّيَّة كما يفهم الكثيرون، بل إنَّه تعبيرٌ عن نُضج الذّات، لأنَّ الشَّاكر هو ذلك الإنسان الَّذي يرى الإيجابيَّ في كلِّ ما حوله. فهو قليل التَّذمُّر والشَّكوى، وكثير الامتنان والتَّقدير. لذا، تجد النَّاجحين والنَّاجحات هُم الإيجابيُّون/ات. إنَّهم/هنَّ يَجذبون بِطاقتهم الإيجابيَّة كلَّ ما هو إيجابيٌّ حولهم؛ أمَّا الإنسان السَّلبيُّ الكثير التَّذمُّر، فإنَّه يَجذب كلَّ ما هو سلبيٌّ حوله. لذلك، مَن أراد أن يغيِّر وضْعَه ومَن حوله، فعليه -بدَلَ الانشغال بهم- أن ينشغل بتغيير ذاته. وحينها، سيتغيَّر كلُّ شيء حوله. وهكذا، نستطيع أن نَفهم قول الله: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأنفُسِهم} [سورة الرَّعد: 11].
الحلُّ يَكمن في داخلنا. إنَّ بداية التَّغيير، هي هنا في أعماق الذَّات الإنسانيَّة. وهذا ما عبَّر عنه القرآن بمصطلح تزكية النَّفس، أي إعمارها وتكميلها، لتصبح يدًا للعطاء غير المشروط. وبهذا، تُحقِّق الذَّاتُ الإنسانيَّة توحيد الله، كقيمة واقعيَّة في حياة الإنسان، تجعله كاملًا في ذاته، باحثًا عن فُرَص العطاء، لا عن فُرَص الأخذ.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.