في اليمن، يُقال من باب تأكيد فكرة الاختلاف: "أصابعك ما يستوين"، بمعنى أن الناس مختلفون في أذواقهم وفي صفاتهم وطبائعهم، كاختلاف أشكال الأصابع في الكف. ثم إنّ هناك الكثير مما يزخر به التُّراث اليمني والعربي عمومًا في هذا الشأن، حتى إنَّنا غالبًا لا نجد أيَّ فكر أو فلسفة أو تشريع دينيّ أو رؤية سياسية، إلّا ويُقدّم فكرة التنوّع؛ ما يؤكد أن هذا التنوّع أو الاختلاف قيمة إنسانية مُضافة إلى بني البشر. ولكن، لماذا يكون هذا الاختلاف جريمة عندما يتعلق الأمر بالعقيدة أو المذهب أو العِرق أو الفكر أو التفكير أو الفلسفة؟
مع تحبيذ المجتمع لفكرة الاختلاف وإيمانه بها، إلَّا أنه كثيرًا ما يقوم بعكس ذلك، بدءًا بالأسرة، ومرورًا بالمدرسة والمسجد، وليس انتهاءً بالحياة العامة. فنجد رَبَّ عائلة يعمل على غرس أفكاره ومعتقداته في عقول أبنائه وقلوبهم، بهدف تكوين عائلة ذات نمط واحد. ونلمس تكريس المَدرسة للشِّعارات التي انطلقَت منها، سواءٌ سياسيّةً كانت أو دينية، لإنتاج جيل ذي لون واحد. أمَّا الجامع أو الكنيسة أو حلقات الدين بكل أشكالها، فغالبًا أنها لا تَقبل حتى النقاش خارج إطار المعتقد والطائفة التي تُؤْمن بها، بل على العكس تجري قولبة الأفكار والمعتقدات، وكأنها سِلَع أو جُرَع تُعطَى للمتلقِّي جاهزة.
يتساءل سائل: "ماذا لو ترَكْنا أطفالنا يستخدمون خَيالهم، ويعتمدون على أنفسهم في فهمهم للحياة وللعالم من حولهم؟ ماذا لو منحناهم الثقة بأنفسهم، والتحليق بتفكيرهم بعيدًا عمّا جرى رسمُه لهم؟". فالحَدْس والخَيال هما الطريق إلى تكوين الآراء والقناعات المستقلّة غير المعلّبة أو المتوارَثة. وهذا لا يعني أن نجعلهم ينسلخون من المعتقدات والأفكار المتوارثة والمتراكمة؛ إنما أن نمنحهم حقَّهم في فهمها بجميع زواياها على الأقل، وليس النظر إليها من الزاوية التي نرى نحن من خلالها. أمَّا إنْ سلبناهم حقهم في التفكير والخيال والأسئلة، فإننا نقوّض مهاراتهم التي تَصِلهم بالحكمة والمعرفة؛ ما يؤدي في نهاية المطاف إلى انفصالهم عن العالم، والانكفاء بالدوران حول أنفسهم مثل عقارب الساعة.
يمكن للأجيال الاستفادة من الأسرة والمدرسة والموروث الثقافي والديني، ولكن ليس على حساب تفكيرهم الخاص ورؤيتهم المستقلّة للحياة. إذ إنه في حال نجحوا في بقاء تفكيرهم متحرِّرًا، فإنهم سيتمكَّنون من فهم ما يتعلَّمونه في البيت والمدرسة وما وجدوه في كتب التراث، بمهارة أسمى من مجرد الحفظ والتلقين؛ ما يسمح لهم برفد المجتمع بأفكار أكثر إبداعًا وحداثة، تمتاز ببصمتهم الخاصة.
في الشأن العامّ، تَفوَّقَت الأنظمة العربية على غيرها في السعي إلى تحقيق التطابق والاستنساخ. فالحزب الحاكم أيًّا كان، يريد أن تكون عقيدةُ الشعب الدينية نسخةً من عقيدته، وهُويَّتُه السياسية نفْسَ هُويّته. وينطبق ذلك على الأُسَر الحاكمة أو الجماعات الدينية المسلَّحة في أكثر من قُطْر عربي، وذلك من خلال نشْرِهم وفرضهم للأفكار التي يُؤْمن بها الحاكم أو "زعيم" الجماعة، عبْر القنوات الرسمية من مدارس أو جامعات أو جوامع أو وسائل إعلامية وغيرها. وفي المقابل، يجري رفض أي فكرة مختلفة، حتى وإنْ جرى تقديمها على أُسُس مدنية أو حضارية أو دستورية.
مع كل ذلك، يبقى الاختلاف فطرة إنسانية ثابتة، والمتغيِّر الوحيد فيها هو النِّسبية بين الأقلية والأكثرية. فمَهما عملت الأسرة أو حاولت الأنظمة الحاكمة، إنتاج فِكر معيّن أو إرساء عقيدة سياسية معيَّنة، فإنّها تقف عاجزة أمام تَنوّع الشخصيات واختلاف المجتمعات. فالأنظمة التي تسعى إلى تحقيق وحدة النوع أو الجنس، إذا ما تَحقَّق لها ذلك، فإنها ستصطدم أمام التنوع الديني، وإذا عملت على توحيد الدِّيانة أو العقيدة، فإنها ستجد نفسها أمام عدّة طوائف أو مذاهب أو فِرَق، لتُؤْمِن في نهاية المطاف بحقيقة الاختلاف وحتميَّتِه. ولنا على ذلك أمثلة كثيرة، لعلَّ مِن أبرزها ألمانيا النازية، التي قامت على أساس الجنس الآري وألمانيا الديمقراطية، التي قامت على أساس حقوق الإنسان. حتمًا، لقد نجحت ألمانيا القائمة على حرية الاختلاف والمواطَنة المتساوية.
نحن -بَنِي البشر- نُمثّل وَحْدة النَّوع، لكنَّنا في مجملنا أنواعٌ وأصناف وأشكال. وكما يُقال: أنواع العسل وأنواع النخيل وأنواع الدُّرر، يقال أيضًا: أنواع البشر. والاختلاف هنا، سواءٌ في اللَّون كان أو في العِرق، أو العقيدة أو الفكر أو الرأي أو غير ذلك؛ لا بد له أن يُحترَم. فمَن نختلف عنه، فليس بالضرورة أن يكون مُخطئًا؛ إنما هو يرى العالَم بعينَيه، وليس بأعيُننا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.