كم يلزمنا من الشجاعة لنتحدث بِعمرنا نحن النساء؟ هل الأمر بهذه الخطورة حتى ننزوي ونفكِّر مرارًا قبل نطق ذلك الرقم الذي يلخِّص سنوات عمرنا؟ وهل علينا حقًّا أن نتسلح بـ“الشجاعة” وكأننا نخوض حربًا، قبل خوض غمار حوار عن “عمرنا”؟
في جلساتي مع الصديقات، يبدو العمر تفصيلًا خاليًا من المساحيق. نَعرف بعضنا جيدًا كرفيقات عُمر أو أقلَّ قليلًا، ولا حاجة إلى المواربة ولا إلى التدليس أيضًا. نَحفظ عن ظهر قلب تلك الخطوط الدقيقة، التي أحاطت بأطراف العينين، وتبدو -يا إلهي- أكثر عمقًا كلَّما ابتسمنا لمن نحب. يَقفز العمر فجأة إلى الأمام، ليضيف أعوامًا لا يمكن لأفضل "كريم" (مَرْهم) أن يزيلها. صرنا نعي تمامًا وجود خطَّيْن عمودِيَّين على جانبي الفم، وآخرَيْن بين الحاجبين، يُطلق عليهما أطباء التجميل بمكر شديد “خطوط الأسد”، ويسمِّيهما أصحاب القلوب المُزْهرة “خطوط الضحك". تلك الخطوط التي تُرسم مع الزمن وهي تؤرِّخ لضحكاتنا، مثل نقوش غارقة في سطح وجوهنا العابرة للزمن.
حسنًا، قررتُ أن أكتب عن العمر. فلماذا تخاف النساء حتى الصغيرات البوح به؟ هل المجتمعات الشرقية كما الغربية، هي السبب في نشر صورة نمطية عن “عمر مثالي للمرأة”، بحيث إنْ تخطَّته تصبح أقلَّ قيمة؟ وهل السبب يكمن في التنمر على عمر النساء في الواقع وفي العالم الافتراضي؛ ما جعل من النساء أكثر انكماشًا وحَرَجًا كلّما تعلق الموضوع بـ“كم عمرك”؟ وهل هذا السؤال خاص لا يجوز طرحه؟ فإن كان كذلك، فلمَ يمثِّل جزءًا من هُويّة المرأة، مِثل اسمها وملامح شخصيتها؟
كنتُ أعتقد أن قصة العمر موضوع محدود في الواقع، يُحاك بما يشبه اللؤم في بعض المجالس، حتى لاحظت ظاهرة تحوّل بعض المِنصّات إلى واجهة للتنمر على النساء: على أشكالهن، وأعمارهن، ولباسهن، وكأنّ المرأة موضوع تَندُّر واستهزاء من قِبَل فئة ما. اللافت أن تقييم شكل النساء من قبل “الغرباء” في تلك المواقع، لا يأتي من فراغ، بل أحيانًا كثيرة يأتي ردًّا على فكرة أوردَتْها امرأة. موقف عبَّرَت عنه، ويا للصدفة لم يُعجب المتلقي الذي لا يبذل مجهودًا ليناقش الفكرة، بل يسارع إلى تعيير صاحبتها بشكلها، وعمرها، وجنسها. وإن لم يَعرف العمر، تَعمّد تذكيرها "أنها في عمر سِتِّه (جَدَّته)"، كنوع من الحطِّ منها، وكأنَّ التقدم في العمر "عاهة" تُعيَّر بها النساء. إنه شكل من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، له تأثيره على فئة من النساء، هُنّ لسن بالضرورة أكثر هشاشة، بل أكثر نمطية وتأثُّرًا بآراء الآخرين، حتى بالغرباء منهم.
“كنتُ أصغَر”، هكذا تقول صديقتي كنوع من التبرير كلَّما تكلَّمَت عن عمرها، وكأنها تعتذر إلى محدِّثها في أنها أكبر مما يَظنّ. يا إلهي كم يبدو هذا جارحًا لي وأنا أراقب تلعثمها أمامه. نسيت أول وهلة أنها أستاذة محاضرة في جامعة عريقة، ونسيت الكتب التي كتبَتْها، والمقالات التي حرَّرَتها، ونسيت المؤتمرات التي طرحَت فيها ورقات عمل، وناقشَت فيها باحثِين من دول شتى، ونسيت قيمتها الأدبية والعلمية والثقافية. وها هي مثل طفل ارتكب حماقة، عليها أن تعتذر لأنها ما عادت في الثلاثين.
عُمر النساء شأن عامّ، كلَّما زاد، حامت حول صاحبته أسئلة مُوغِلة في الخصوصية: تزوَّجَت؟ أنجبَت؟ وإن لم تُنجب، همسوا أمامها "عمرها حَرِج... فاتها القطار". هذه شذرات من الجمل التي تُنطق أمامها، كما تُنطق لحظة تبتعد في الزحام. لن أقيم مقارنة بين عمر المرأة والرجل، لأن الموضوع يطُول. فعمر الرجل كلّما زاد، صار قرين الحكمة والخبرة والمسؤولية وطيِّ صفحة “التهور”. الحديث بتقدُّم الرجل في العمر مُحاط بهالة من الاحترام، بل بالجاذبية أحيانًا، في حين تتراجع هذ الهالة حين يتعلق الأمر بالمرأة، لا سيما إن كانت غير متزوجة.
عمر المرأة، رقم يهمُّ الآخرين، تارة هو في صالحها، وتارة ضدها. هي صغيرة لتَحمل منصبًا وظيفيًّا ما، ثم فجأة تُصبح أكبر مما يجب لتَحمل المنصب ذاته.
الخوف كلّ الخوف من عدم الاستمتاع بالعمر، بكل مرحلة فيه، لأن النساء مشغولات بتلبية طلبات الآخرين، بالتحسُّب من آراء الغرباء. في كل مرحلة عمرية هُنّ طيّعات لمقاييس المجموعة، وعلاقتهن بالزمن محكومة بالخوف. الخوف من أن يَكبُرن فيصبحن أقلَّ جمالًا، أقلَّ حُظوة، وأكثر وَحْدة. ولهذا، أكتب اليوم: تَقبَّلي عمركِ دون التفاتة واحدة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.