في 11 آذار/مارس 1882، ألقى أرنيست رينان محاضرته الشهيرة في جامعة السوربون في باريس بعنوان: "ما هي الأُمّة؟"، واعتبر أنَّ الأُمّة هي روح، ومبدأ فكري يقوم على ركيزتين: الذاكرة المشتركة من جهة، وإرادة العيش معًا من جهة أخرى. فاعتُبرت مقاربته بأنها تقوم على النموذج التعاقدي للأمة الذي يتخطَّى الانتماءات الخاصة للفرد، على خلاف النموذج الألماني المعاصر له، الذي يقوم على وحدة اللغة، والدين، وحتى العرق، إذ يقول: "الإنسان ليس عبدًا، لا لِعِرْق، ولا لِلُغة، ولا لِدِين... فاجتماعٌ بشريّ واسع، مع فكرٍ سليم، وقلبٍ حارّ، يخلق وعيًا قيميًّا يسمّى الأمة".
لقد تشكّلَت غالبية الدول في القرنين التاسع عشر والعشرين، على أساس القومية الوطنية، ومبدأ الدولة-الأمة. وقد قدّمَت هذه المنظومة نوعًا من الاستقرار، لمجتمعات كانت وليدة تحوُّلات في الخرائط السياسية، إِمَّا خارجة من ثورات، أو صراعات داخلية.
تكمن أهمية المفهوم القومي في تحقيق المساواة بين المواطنين، وتخطِّي المنظومة الجماعوية، أو "الدولة-الجماعة"، حيث تقوم جماعة خاصة بالهيمنة على الحيّز العام، والسيطرة على السلطة السياسية في بلد ما، باسم إيديولوجية إثنية، أو دينية، أو غيرهما. إذ لا يبقى لمن هم خارج الجماعة في هذه "الدولة-الجماعة"، إلاَّ الخضوع لمنظومات التمييز، أو رفض هذا الواقع، إِمَّا بالهجرة، أو بالمقاومة.
لكن هشاشة المفهوم القومي، تكمن في ضعف الوحدة التي يدّعي تمثيلها، وهي في غالب الأحيان تستند إلى فكرة إيديولوجية أكثر منه إلى الواقع. فمصطلح "الأمة" في تركيبة "الدولة-الأمة"، هو تصوّر، لا بل ادِّعاء يَضعُف أمام قوة الروابط الأخرى ذات الطابع العصبي، مثل العشيرة أو الطائفة الدينية. لهذا السبب؛ غالبًا ما ترافقت الدول القومية باستبداد سياسي، سُمِّي "بالدولة القوية". وتعني الدولةُ القوميةُ القوية هنا، هيمنةَ السلطة السياسية على المجتمع، لقمع الخصوصيات الثقافية، وتفكيك الروابط العصبية، والترويج لقراءة رسميّة للتاريخ، بهدف صهر المواطنين في بوتقة واحدة تحددها الدولة، وتغذيها بالتعبئة التربوية، والإعلامية. من اللافت أيضًا، أنّ غالبية النخب السياسية والفكرية مالت نحو هذا المفهوم، لنفورها من العصبيات التقليدية الدينية أو غيرها، ولقناعتها بضرورة تحقيق المواطنة عبر علاقة المواطن المباشرة بالدولة، دون أي وسيط بينهما.
لكن، يبدو أن هذا النموذج للدولة الحديثة، لا يملك المناعة الكافية لمواجهة المعضلات الكبيرة الراهنة، كالتطرف، والطائفية، والهجرة الكثيفة. فالنظام البعثي القومي العربي، بجناحَيْه العراقي والسوري، الذي قام على مبدأ انصهار المواطنين في الهوية القومية الواحدة والجامعة، فشل في التعامل السليم مع انتماءات المواطنين وثقافاتهم الخاصة، الدينية، أو الإثنية؛ ما جعل المجتمعين العراقي والسوري، يدخلان في صراعات طائفية ومذهبية عنيفة، ومدمِّرة للنسيج المجتمعي، وأدَّى إلى نشوء حالة شبه الانفصال الكردي عن الجسم الوطني.
واللافت أنَّ أوّل وأكثر من يدفع ثمن كذبة الانصهار القومي، هم الأقليات في هذه المجتمعات، في زمن النزاع، كما في زمن السلم. فالإيديولوجيا القومية تُفقِد الأقلّيّات ميزتها الثقافية، التي يمكن أن تُشكِّل غِنًى للمجتمع ونموّه. هذا ما جرى للأقلّيّات في العراق وسوريا، فهي في حال تراجُعٍ ديمغرافي وسياسي مستمرّ منذ بدايات القرن العشرين، مرورًا بالأنظمة القومية، ووصولاً إلى مرحلة الصراع الداخلي وما بعده. ينطبق الموضوع نفسه أيضًا على تركيا، حيث لا مع الأتاتوركية الحديدية ذات الطابع العسكري لحماية الوطن القومي التركي، ولا مع المنحى الإسلامي الجديد للنظام، حقق الترابطُ الاجتماعي، والاستقرار السياسي. فعلى مدى مئة عام، لا الأكراد وجدوا حلاًّ لقضيتهم، ولا الأقليات كالعلويين أو المسيحيين استفادوا من المناخ السياسي للقومية التركية. وإذا نظرنا إلى فرنسا، نجد صعوبة اندماج المسلمين في المجتمع والحيّز العام، وهم قد وصلوا إلى هذا البلد عبر موجات الهجرة المختلفة.
من الواضح أنَّ النظام القومي للدولة-الأمة مستندًا إلى مبدأ الانصهار، لم ينجح في التخلص من آفة التمييز التي أنتجتها الأنظمة الجماعوية، المرتبطة بهيمنة مجموعة خاصة على الدولة؛ فسقط في عملية التهميش وإن بشكل غير مباشر، وبقيت الوحدة الوطنية حالة مصطنعة ومفروضة على المواطنين. وكما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس لقد دخلنا في مرحلة ما بعد "الدولة-الأمة"، والحاجة اليوم كبيرة ومُلحَّة إلى إيجاد النموذج البديل للقومية، ومبدئِها الانصهاري. برأيي، لا بد من أن يأتي الجواب مستندًا إلى مفهوم "المواطنة الحاضنة للتنوع"، الذي سوف أقدمه في مقالي التالي، يوم الخميس القادم.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.