بعد أنْ تَحوَّل فيروس كورونا (كوفيد–19) إلى جائحة كَونيّة، هزَّت العالَم هزًّا عنيفًا، ودعَتْ مُحلِّلِين كثيرين في مختلف الصُّعُد، إلى القول بأنَّ العالَم ما بعد كورونا ليس هو ما قبْلَه، ومع تَفهُّمي الحالة النفسية التي يمرُّ بها البشر الآن بسبب الوباء الكارثي؛ فإنَّ هذا القول يَحمل قدرًا كبيرًا من التَّنبُّؤ لِمَا قد يَحدث مستقبلًا، أو على أقلِّ تقدير يدلُّ على رغبة العالَم في التغيير، مِن واقع عجزه المُرِيع عن مكافحة الوباء.
المقال هنا لا ينطلق من حالة تنبئية، بقدر ما ينطلق من رغبة تأسيسية، أيْ طرْحِ رؤية لتأسيسٍ معرفيٍّ جديد في الحقل الإسلامي، انطلاقًا من هذا الحدَث الجَلَل. وإنْ كان قد قُدّمَ العديد من الرؤى النقدية للنظرية الرأسمالية، المتحكِّمة في عالَم ما بعد الحرب الباردة؛ فإنه قد قُدّم أيضًا نقدٌ فلسفي وديني واجتماعي للمنظومة المعرفية لدى المسلمين. وقد ازداد هذا النقد بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001م، وتَواصَل مع أحداث الربيع العربي، بما يجعل المعرفة الإسلامية محتاجةً بالفِعل إلى طرح جديد.
إنَّ اعتبار النظرية الرأسمالية، أنّها النظرية الوحيدة لصياغة الأنظمة السياسية الاقتصادية والاجتماعية، مَحلَّ نظرٍ عالميًّا، ليس بسبب المحاذير التي تُطرح تقليديًّا عند معارضتها للثقافة الدينية؛ وإنما مِن كَون الرأسمالية باتت هي نفْسُها محتاجةً إلى تعديل عميق في فلسفتها ومكوِّناتها، بل أقول: إنَّ العالَم أصبح محتاجًا إلى نظرية جديدة، تكُون بديلة عن الرأسمالية.
لقد غدَت حاجة المسلمين/ات ماسَّةً، إلى أنْ يُعِيدوا بناء تفكيرهم المعرفي. وهُمْ في إمكانهم أن يكونوا مؤثِّرين/ات عالميًّا، في نظرتهم إلى الوجود بقِيَم الإيمان والأخلاق. وهذه الإعادة لا تقف عند الماضي المعرفيِّ الذي جرى الصراع حوله، إلَّا بمقدار الاستفادة من عِبَرِه، إذ ينبغي لتلك الإعادة أن تُطوِّر بناءً جديدًا، منطلِقًا من الإيمان بالله واليوم الآخر والقيم الأخلاقية العُليا، والأخذ بالآيات المُحْكَمَات (أي كلِّيّات الشريعة) نحو مستقبل أفضلَ للبشرية، وأرْحَبَ لعطائها.
في إمكان مفكِّري الإسلام أنْ ينطلقوا من مرحلة ما بعد جائحة كورونا، لتقديم نظرية معرفية –تُسهم مع غيرها من الأطروحات الإنسانية– في ترتيب البيت الأرضي، بحيث تعتمد على مرتكَزات، منها:
- رؤية سياسية، تَخرُج بالعالم من مَضِيق الصراع والحروب واستغلال حاجات الشعوب، إلى رحابة الحرية والأمن، وتأمين الغذاء والصحة والتقدم للناس. ولقد فضَح الوباء هذا الصراع، ومزّق الأقنعة التي تتستَّر بها السياسة. فعالَم السياسة في أمَسِّ الحاجة إلى القيم والمبادئ. وبنظري، أنَّ المعرفة الإسلامية قادرة على المساهمة في خروج العالم من مأزقه الحالي، إنْ تَبنّت أُسسَ الكرامة والعدالة والرحمة، التي أكَّدها القرآن، وجعلها من سُبل نجاة البشر.
- نظرية اقتصادية، تتخطَّى تقسيم العالم إلى أغنياء يتنعَّمون بالبذخ الطائل، وفقراء يعيشون في وَحْل الحاجة والمَجاعة؛ إذْ كشَف كورونا أنَّ هذا التقسيم كَرتونيٌّ هشٌّ، بحيث صار الجميع سَواسِيَةً أمام جائحتهم، بل إنه أصاب العالَم المتقدِّم وأغنياءه، أكثر ممَّا أصاب العالم النَّامي وفقراءه. فالعالم محتاج إلى هدم هذه الفَوارق، وإعادة توزيع عادلة للثروة العالمية، ما دُمْنا أصبحنا في مَركبٍ كونيٍّ صغير.
- حياة اجتماعية، تبتعد عن العنصرية العِرقية والجنسية والدينية، التي بسببها قامت حروب مدمِّرة. وقد رأينا من خلال طوفان كورونا، أنَّ البشر في وضْعِهم الاجتماعي كانوا جميعًا في مواجهته، وأنهم أمام هذا الاجتثاث الطبيعي نَسُوا فَوارقهم، فواجهوه بروح واحدة متضامنة، وبِيَد واحدة متعاونة. وهذه المساواة التي فرَضها الواقع لكي يَخرج الإنسان من مأزقه، ينبغي أن تكُون حاضرة بقوَّة في البناء المَعرفيِّ المنشود لدى المسلمين.
- حالة نفسية، تُعالج ما هو منتشر بين الناس، مِن يأس وكآبة وفقدان للتوازن النفسي. فأزمة كورونا كشفت عن حاجة عميقة لدى الناس، إلى الاتِّصال بخالق هذا الوجود، سواءٌ لإنقاذهم من هذا الوباء الفتّاك، أو لإشعارهم بالاطمئنان، أو للتخفيف عنهم بعض التَّوتُّر الكاسح والكآبة المُستشْريَة. وهذه الحالة من أهمِّ ما يعالجه الإيمان بالله خالقِ الوجود وراحِمِه.
أمامَ العالم فرصةٌ كبيرة لِيُعِيد بناءه المعرفيَّ، حتى يتمكن من الانتقال إلى مرحلة جديدة من الوَحدة الإنسانية، المشترِكة في الحياة بآلامها وآمالها ومَسيرها ومصيرها. ومِن واجب المسلمين/ات أنْ يقدِّموا إسهامهم المعرفيَّ، من منطلَق الرحمة والعدالة، والإيمان بالله ربِّ الناس جميعًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.