كشفَت أزمةُ جائحة كورونا (كوفيد‑19) وتداعياتُها، النِّقابَ عن عدد من القضايا الهامَّة والشَّائكة، التي كانت إلى وقت قريب مُتَوارية عن الأنظار، نظرًا إلى حساسيَّتها، أو إلى أنّه مَسكوتٌ عنها عمدًا. ومن هنا، تَكمن القدرة التأثيرية للجائحة، على الدفع بقوة لعددٍ من تلك القضايا إلى الواجهة. ومن بين هذه الأمور، الحديث في عدم تَجانُسٍ في أداء كلٍّ من المؤسسات الدينية المصرية الثلاث (الأزهر الشريف، والأوقاف، والفتوى)، على هامش التعاطي مع جائحة كورونا وتداعياتها، حيث عبَّرَت عنها آليَّاتُها التي تأرجحت بين الاعتدال والحِدِّيّة، من خلال إصدار الرُّؤَى الشرعية والفقهية والتنفيذية، التي تشتبك بشكل مباشر مع المحيط المجتمعي.
لقد وضعَت هذه الجائحة المؤسساتِ الدينيّةَ المِصريّة في اختبار قاسٍ، من حيث مدَى قدرتها على التعاطي معها والتفاعل السريع مع تداعياتها من جهة، ومدى ما أفصحَت عنه من عدم ثقة بِشكل العلاقة التي كان يُفترض فيها أن تكون بينها وبين المحيط المجتمعي من جهة أخرى. وشملَت القضايا الرئيسة التي تَمحوَر حولها النقاش داخل المؤسسات الثلاث: فتح/غلق المساجد وخاصة في شهر رمضان لأداء صلاة التراويح/القيام، وقراءة القرآن الكريم قُبَيل صلاتَي الفجر والمغرب، وبثّ التلاوة من مذياع المساجد على مدار شهر رمضان.
مع بداية ظهور الجائحة، سارَع الأزهر الشريف مُمثَّلًا بِشيخه د. أحمد الطيب، إلى طرح رؤية فقهية تُفِيد جواز تعطيل صلوات الجُمَع والجماعات، للوقاية من انتشار فيروس كورونا، ولكنّها لم تكن إلزاميّة للدولة. في ذات الوقت، حرص وزير الأوقاف على ما يخالف تلك الرؤية، انطلاقًا من كَون حسن التوكُّل على الله يَفرض الأخذ بالأسباب، وليس تعطيلها أو إهمالها. وذلك إلى أن جاء القول الفصل من قِبل السلطة السياسية، برؤية وافقَت ما طرحه شيخ الأزهر، حيث سارَع وزير الأوقاف إلى تنفيذها مباشرة، وقام بإغلاق كلِّ المساجد التي تُشْرف عليها الوزارة، ثم أصدر د. شوقي علام (مفتي الجمهورية) فتواه المطابِقة لمضمون رسالة وزير الأوقاف والرؤية الشرعية لشيخ الأزهر، وأصبحت الصلاة بعد ذلك داخل البيوت بديلًا عن المساجد والتجمُّعات.
اللافت أن وزارة الأوقاف، بما لديها من سلطة تنفيذية حيال إدارة المساجد والزوايا والجوامع، وفي سياق المنع أو الحظر الذي فرضته، ومع تَطابُقه مع ما طرحته مشيخة الأزهر، فإنَّ خطاب د. محمد مختار جمعة اتَّسم بالحِدِّيَّة، خاصة مع إصراره على عدم قبوله أفكارًا وأطروحات، قد تُرخي السياج القائم حول دُور العبادة، والذي فرضته الجائحة قهرًا وقسرًا. أيضًا اتَّسَم الخطاب بالسرعة في تنفيذ العقوبة على من يخالف تعليماته، كما حدث مع المتحدِّث الرسمي للوزارة، الذي أُقِيل على خلفيَّة تصريحات إعلامية، تُفِيد إمكانية تأدية صلوات القيام/التراويح خلال شهر رمضان بدون مُصلِّين.
تَحفَّظ بعضهم على أداء وزير الأوقاف. ومع تَوافُقهم معه في وسيلة المنع، فإنهم انتقدوا طريقته، ومن بينهم اللاعب المصري أحمد حسن، الذي انتقد في تغريدته حماسة الوزير وإصراره على غلق المساجد. ثم إنه طالَب النائبَ البرلماني سمير رشاد، بالسماح بنقل القرآن الكريم وبثّه من المساجد، قُبَيل صلاتَي المغرب والفجر -عبر المذياع-، حيث خاطبه ساخرًا بأنَّ ذلك لا يَنقل العدوى. أضِفْ إلى ذلك ما تداوله روَّاد مواقع التواصل الاجتماعي، من مسيرة لبضعة أفراد في مدينة الإسكندرية الساحلية، يتضرعون خلالها إلى الله في أنْ يَرفع الوباء، حاملين مُجسَّمًا للكعبة المشرفة، وكأنهم يعبِّرون بذلك عن اعتراضهم على غلق المساجد خلال شهر رمضان.
كان شيخ الأزهر على وعي كبير بطبيعة تديُّن الشارع المصري بكل تنويعاته المِلِّيَّة، سواءٌ مسلمين كانوا أو أقباطًا، إذ إنَّ وَقْع إغلاق دُور العبادة وتأثيراته في المحيط المجتمعي، ليس بالهيِّن؛ ما يتطلب نوعًا من الحكمة، التي تقتضي تَوعية المواطنين بأنَّ هذه الإجراءات تأتي في سياق المحافظة على صحتهم، ولا تَبحث عن انتزاع حرياتهم الدينية. وذلك ما جعل خطاب الأزهر مميَّزًا ومغايِرًا. وفي سياق ردود الفعل المجتمعية، لجأ بعضهم إلى القيام بالصلوات فوق أسطُح البنايات، وداخل المنازل والحدائق، وما شابه. وعلى الفور، سارعت المؤسسات الدينية إلى إصدار البيانات والفتاوى، التي تُجرِّم ذلك وتؤثِّمه. ومع الوقت، بدا وكأنَّ هناك شرخًا كبيرًا بين أداء المؤسسة الدينية في إدارتها للأزمة والمجتمع بفواعله المتنوعة. تلك المؤسسة التي كان يجب أن تصطفَّ معهم، تحوَّلَت إلى خصم.
إنَّ ما تتطلَّبه ضروريات اللحظة الراهنة، أنْ تصبح المؤسسة الدينية متماسكة، بالقدر الذي يجعلها تُضيِّق الهُوَّة بينها وبين محيطها المجتمعي، حتى يتسنَّى لها أن تكون أكثر فاعلية، وأكبر أثرًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.