أثار فوز الشابة الجزائرية السمراء خديجة بن حمو، بلقب ملكة جمال الجزائر لعام 2019 قبل أيام قليلة، ضجة كبيرة في الجزائر، قدّم فيها المعترضون على تتويجها مقاييس الجَمال الصِّرْف، التي لم تحترمها لجنة التحكيم من وجهة نظرهم. فالفتاة سمراء قادمة من عمق الصحراء الجزائرية، تُناقض بسُمْرتها بياض الجمال المرسوم في أذهان كثيرين داخل الجزائر وخارجها، كعنصر متفوِّق على السُّمْرة إثنيًّا وجماليًّا.
ربما لا بأس بالاختلاف في شأن مقاييس الجمال. فالجمال نسبي كأمور عدة، كأنْ يحبَّ الشرقُ العيونَ الملوَّنة، ويفضِّل الغربُ العيون السُّود. ولا بأس بِسِجال في موضوع خفيف كمسابقة ملكة الجمال، التي تُروّح عن نفوس العرب المخنوقين على مدار السنة، بمواضيع ألوانها قانية تحاكي لون الدماء المسفوكة على أراضٍ كثيرة، لولا أن تعليقات عديدة، جاءت مشحونة بدرجات عنصرية. فقال أحدهم معبِّرًا عن غضبه من “إهانة جمال الجزائريات”، بانتخاب خديجة حسناء البلاد: "استغربتُ كيف رشَّحَت نفسها للمشاركة في مسابقة الجمال. كان من المفروض أن يوقِفَها حارس المسابقة على مدخل الباب، ويقول لها ماذا يمكن أن يكون موقفنا من الدول المجاورة، وكيف سيُدْرك شبّاننا الذين يعيشون في الخارج أنَّ لدَيْنا بنات جميلات في الجزائر!". وقالت فتاة بِلُغة أمازيغية: "إنها وحش الجزائر، وليست جمال الجزائر".
الاختلاف هنا لم يكن في شأن معايير الجمال، بقدر ما كان بدرجة سُمْرَة بشَرة خديجة. وغيرُ بعيد عن الجزائر، شهدت تونس في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، حادثة قتل رئيس الجالية الإيفوارية (ساحل العاج) طعنًا بسكِّين، في حادث تصِفُه الجالية القادمة من أفريقيا جنوب الصحراء، ومنظمات تونسية مناهضة للعنصرية بأنه “جريمة عنصرية”، في حين تنفي وزارة الداخلية ذلك، وتقول إن دافع الجريمة كان السرقة.
الحقيقة، أن الجريمة أيًّا كانت دوافعها، دقَّت ناقوس الخطر -وكثيرًا ما يُدقُّ في تونس-، لتُذكّر بالجرائم العنصرية الكثيرة التي تحدث في تونس، ويَفلت مرتكبوها من العقاب، إذْ تستهدف تونسيِّين سُمْرَ البشرة، وأيضًا الأفارقة من جنوب الصحراء المقيمين في تونس. اللافت، التناقض الكبير بين الإطار التشريعي التقدُّمي في تونس والسلوك العامّ. فلقد أضافت تونس في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قانونًا يجرِّم العنصرية، وصدَّقه البرلمان، وهو: "قانون مناهضة التمييز العنصري، والمساواة التامة بين المواطنين في جميع الحقوق". القانون يعاقِب على الفعل العنصري والقول العنصري بالسجن والغرامة المالية، ولا يستثني من العنصرية النكات العنصرية أيضًا.
القانون ثوري وجزّار وصارم، جرى إقراره بعد حملة قادها وزير تونسي، إثر حادث اعتداء على طالبة تونسية سمراء البشرة. وفي تصريح سابق حصلتُ عليه من هذا الوزير المهدي بن غربية (عرّاب قانون تجريم العنصرية)، أقَرَّ فيه بوجود سلوك عنصري في تونس مسكوت عنه، قال: "لدينا سلوك عنصري، كذلك لدينا ثقافة عنصرية علينا استئصالها. انظري مثلًا إلى تلك المفردات المنتشرة في مجتمعنا لوصف سمرة البشرة، بكلمات عنصرية مثل “وصيف” و“كحلوش” وهي من الكلمات القبيحة والمؤذية الرائجة، دون شعور بخطورتها وبأنها عنصرية. حتى في حفلات الزفاف، تتعمد بعض الأسر وضع سيدة سمراء البشرة في الصفوف الأمامية، كنوع من التميمة لكسر الحسد والعين، تقول تلك الخرافة… هذا كله موروث عنصري متداول في تونس".
نحن اليوم في تونس أو الجزائر، نواجه يوميًّا هذا الموروث العنصري المتداول. تعيده إلى السطح “حوادث منفصلة”، مثل التعليقات العنصرية التي انفجرت على مواقع التواصل، عقب اختيار الفتاة خديجة ملكة جمال الجزائر. كان ترَبُّعها على عرش الجمال مستفزًّا، حتى لأولئك الذين يدَّعون انعتاقهم من أغلال العنصرية المَقيتة. كان يكفي قراءة تعليقاتهم التي لم تتحرَّر بعدُ من ماضٍ مُوغلٍ، في كراهية سُود البشرة وظلمهم واستعبادهم، لنكتشف حجم التناقض.
لم تكن محاولات بعض وسائل الإعلام العربية، التقليلَ من فَدْح خطاب الكراهية والعنصرية أقلَّ وطأة، من حيث مساهمتها في تأصيل الذاكرة الجماعية العنصرية. ونعني بالذاكرة ذلك السلوك المجتمعي، الذي تَسْكنه تعليقات ونكات عنصرية، تمرُّ دون محاسبة ودون شعور بالذنب، وكأنَّ القاعدة هي العنصرية قولًا وفعلًا.
تونس التي قضت على الرِّقّ عام 1841، فكانت من الشعوب السبّاقة إلى التنبُّه لجُرم تملُّك الإنسان إنسانًا آخر، واستعباده بسبب اختلاف في البشرة؛ تقاوم منذ 170 عامًا تلك الازدواجية، بين قوانين ثورية وسلوكٍ يحطُّ من الإنسان.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.