في يوم الجمعة الفائت، كنتُ في ندوة مع عَلَمين في الفكر الإسلامي المعاصر، هما: الباحث التونسي المؤسِّس لمَدرسة فكرية تحديثية "عبد المجيد الشرفي"، والمفكِّر العراقي العامل في التجديد الأُصولي والكلامي "عبد الجبار الرفاعي".
كانت الندوة حول تجديد الفكر الإسلامي بين اختلاف تحديات القرن العشرين، وتحديات القرن الواحد والعشرين، ودار فيها الحديث بالتحديث المطلوب على المدى البعيد، في العلاقة بالنص، وبالعلوم الدينية كَكُلّ. وكانت الندوة في الجامعة الأميركية في بيروت، إذ نظَّمها معهدُ المواطَنة وإدارة التنوع في مؤسَّسة أديان، ومعهد عصام فارس للسياسات العامة، وحضَرها ثُلّة من المفكِّرين والعاملين في الشأن الديني، بينهم مجموعة من عدَّة دول عربية وغربية، تَعمل مع مؤسسة أديان على دليل إرشادي إسلامي للمواطَنة والعيش معًا. أيضًا حضر عدد من طلاب الجامعة الأميركية، وطلاب من معهد المواطنة وإدارة التنوع.
كنتُ أُدير الجلسة، وأردتُ أن أخصِّص وقتًا مَليًّا للأسئلة والتعليقات من الجمهور. وفِعلًا، تَلقّى المفكّران أسئلة وتعليقات كثيرة جوهرية وعميقة، من الأساتذة والمفكرين والعاملين في الشأن الديني الحاضرين، حول: الرِّهانات الحاضرة، ووظيفة الدين، والعلوم الدينية. أمّا الطلاب، فأتى منهم سؤال واحد: "كيف يكون ردّ فِعْلنا على ما حصل في نيوزيلندا؟".
لم يأتِ أيُّ سؤال آخر من كلِّ الطلبة الحاضرين. ممكن أن يكون ذلك، لأن عددًا منهم يخجل من طرح أسئلة على قامات كبيرة في الفكر. إلَّا أنَّ دَوِيَّ هذا السؤال المنفرد من قِبل طالب واحد، فتح أمام عيني مشهد الهُوّة الكبيرة، بين مَن شاعت تسميتُهم بـ"المفكرين المسلمين الجُدد" -والذين يعدّني المختصّون مِن ضِمنهم-، وفئةِ الشباب. فكأنَّ المجموعتَيْن تَسكُنان عالَمَين مختلفَين، أو كأنَّ المثقَّفِين والمفكِّرين يَقطنون بعالَم الفكر وآفاقه؛ أمَّا الشباب، فيَسكنون عالَم الشعور وارتداداته. شعرتُ بعُمق الجرح الموجود لدى الشابِّ السائل. جُرح حامل وجوه كلّ فرد من الأبرياء، الذين قُتلوا وهُم في المسجد، وكأنهم أبرياء الأخدود: {وهُم على ما يفعلون بالمؤمنين شهودٌ، وما نقمُوا منهم إلَّا أن يؤمِنُوا باللَّهِ العزِيزِ الحَمِيدِ} [البروج: 7-8]. لمَستُ الألم الحقيقي المجسِّد للحديث الشريف: "مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهِم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى". وأحسستُ بالألم المضاعَف، الذي نُسبِّبه نحن المثقَّفين والمفكِّرين، المبتعدين عن خانة الشعور بمحاولاتنا لتأسيس فكر جديد. فكأننا نخون الشباب وتطلُّعاتهم وانتظاراتهم منَّا، عندما لا نعترف بأهمية هذا الألم المضاعَف، ونترك الساحة المفتوحة لمن قد يتلاعب بهذا الشعور، لدفع الشباب إلى مساحات خطرة.
كم من مرّة، أنا نفسي لم أَقُل شيئًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد سماعي بمجزرة طالت مسلمين في مكان ما من هذا العالم، كي لا أنجرّ مع من يهتفون بغضب (عمَلًا بالحديث الشريف: لا تغضب)، وكي لا أُصنَّف مع من يخلط الحابل بالنابل، أو مع من يتسم بتضامن انتقائي، يشعر بألم المؤمنين من دينه فقط، دون أن يشعر بالمؤمنين من أديان أخرى، حين يُضطَهدون وتُقام المجازر بحقِّهم، وأحيانًا من قِبَل أشخاص يسمُّون أنفسهم مسلمين! فأنا أُفضِّل بدل قولي أيَّ شيء عن الحادثة بذاتها، تسليطَ الضوء على مبادراتِ تَضامُن غير المسلمين مع المسلمين، بَعد مِثْل هذه الأحداث المفجعة.
بعد تلك الجلسة في الجامعة الأميركية، تيقّنتُ أن جميع الأسئلة التي طُرحَت والتي كانت جوهرية، هي أقلُّ أهميّةً من سؤال هذا الشاب، الذي بقي دون جواب. وما هو أكثر أهميّة من السؤال، هو عدم قدرتنا على الجواب، أي عدم قدرتنا نحن المفكِّرين المسلمين الجُدُد، على استيعاب الألم والغضب من الإسلاموفوبيا، والشعور بالمظلومية لدى شريحة كبيرة من المسلمين في العالم، وعدم إمكانيّتنا من التعامل مع عالَم الشعور. فنحن نُعطي الشباب والسَّواد الأعظم من المسلمين، رسالةً عقليّة وأحيانًا روحانية، لكننا لا نقترب من ساحة المشاعر، التي لا نستطيع أن نَضبطها، فنخاف منها.
"كيف يكون ردّ فِعلنا على ما حصل في نيوزيلندا؟"، لم يكن سؤالًا عرَضيًّا لا علاقة له بمضمون الندوة، بل كان سؤالًا جوهريًّا، لا أعلم ما الإجابة عنه بَعْد. ولكنه سؤال يضعنا أمام حتميّة التفكير، فيما يَردم الهُوّة بين المفكِّرين المسلمين الجُدد وعامّة المسلمين، وفيما يقرّب الفكر من الشعورِ.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.