على وقعِ انعكاسات العنف تتجلى صور الفوضى التي ترسمها الحروب بفرشاة الدمار ما أفرز أنماطًا متنامية من النزاعات الفكرية والصراعات الطائفية العابرة لحدود السلم، فباتت مرآة التعددية العاكسة لمفاهيم التنوّع جُزءًا مكسورًا في بعض المجتمعات، التي لا تزال تشكو غياب الرؤية الواضحة لإدارة منظومة العيش المشترك وقبول الاختلاف.
ومن هنا تُشكِّل بلاد ما بين النهرين مساحة واسعة وأرضية خصبة لنشوب الكثير من الخلافات، التي تمتد جذورها لمراحل وحقب متفاوتة. أغرقتها الحروب الأهلية، والتدخلات الخارجية، والنزاعات الطائفية، بِوابل من الحقد الدفين الذي أنتج فرضيات الإقصاء ونبذ الآخر المختلف، ومحاولة فرض رؤية تسلّطية يتمسك بها طرف واحد يدّعي امتلاك الحقيقة ووجوب انصياع الفئات الباقية له، من دون الأخذ بعين الاعتبار ترك مساحة لبقية الآراء الأخرى، التي تشكّل نسبة لا يستهان بها من تقويم البلاد. ولعل السبب الرئيس الذي أذكى أتون التوتر وأثار ضغينة الطائفية في العراق بشكل كبير، هو موجة الإرهاب المتمثلة بداعش التي كانت نافذة مفتوحة، عكست مدى عمق الأزمة الكامنة وحُبّ الناس لممارسة نظرية الثأر والتَّشَفِّي من الفئات التي التهمتها نيران الحرب كجزء مما يستحقونه! وراح كل طرف ينقّب عن الأسباب التي جاءت بالإرهاب، ويحاول خلق أدلة ومواثيق غير ممنهجة؛ لإلصاق التُّهم بأصحاب المعتقدات الأخرى، وتصوير الإرهاب على أنه صنيعتهم.
قد يتضح جليًّا عِظَم الصراع التاريخي الدائر بين أقطاب الدين الإسلامي على صعيد السياسة من جهة، والمفارقات الدينيّة من جهة أخرى؛ حتى تأصّل لدى طبقات مختلفة من المجتمع، عمق الفجوة الكبيرة التي لا تردمها جبال الكلمات الترقيعيّة والتعبيريّة الفضفاضة بين مُعتنِقِي أحد المذهبَين (الشيعيّ أو السنّي)، لا سيما تلك الأقاويل التي تعانق الخيال على ألسنة عامة الناس وحتى رجال الدين، بأن الجميع متعايشون كأخوة ولا وجود لمشكلات على الإطلاق. لكن الحقيقة مختلفة تمامًا؛ لأن التوتر أصبح يتجدد ويطفو على السطح بشكل تدريجي ما إن يمر البلد بمنعطف أمني أو سياسي أو اقتصادي، وكل المحاولات الآنفة لم تكن بمستوى درء الخوف وبسط العيش المشترك.
ومن زاوية أخرى، فإنّ تفاقُم هذه الصراعات كان سببًا رئيسًا في تحزّب كُلّ فئة للدفاع عن معتقداتها، وخوفها على مصالحها الاجتماعية والسياسية والدينية من التعرّض لأي تدخلات أو ضغوط قد تهدد كيانها أو نفوذها. وفي ظل ذلك يعيش أبناء المكونّات والأقليّات الأخرى الخوف ذاته، أو ربما أكثر من ذلك، ولكن بأشكال مختلفة؛ لأن انعكاسات الحروب ساهمت بشكل كبير في تمزيق الهويّة التعددية لهذا البلد، حتى ساد الخوف عقول الناس وتوجهاتهم من تداعيات المرحلة القادمة، فالكثير خائف من مرحلة ما بعد داعش بعد ضبابية الصورة القائمة. فهل نحن مقبلون على نعيم وأمان بعد سنوات من الإرهاب، أم هي فترة انتقالية لمرحلة غامضة تشوبها المحاصصات الطائفية والمناكفات الحزبية لا سيما مع قرب الانتخابات، أم أن بوادر التقسيم ستنضج بشكل أوسع تحت بند المطالبة بالاستحقاقات "المشروعة"؟!
لكنها أشبه بصورة مشوَّهة لجنين غير شرعيّ، بحاجة إلى عملية قيصرية قد تُجرى في دهاليز صالات العمليات الأجنبية والعربية بمشرط سياسيّ-دينيّ، على أيدي أمهرِ الحرفييّن في المتاجرة في مصائر الأمم.
ولمَّا كانت المنظومة الاجتماعية السائدة يلعب فيها الدين بمؤسساته دورًا رئيسًا في تركيب أجزائها الحياتية؛ لذا استَغلَّت بعض من هذه المؤسسات أصوات قواعدها الجماهيرية، لتوجيه الآراء حول قضاياها المختلفة، وكسب النفوذ السلطوي أو الهيمنة على الساحة من منظار الأعلميّة، فباتت الأقلّيات الأخرى لقمة سائغة وصوتًا مغيّبًا، بعد أن أصبح وبات وأمسى المعيار الأكثر شيوعًا والأقسى استخدامًا هو معيار "الأغلبية"، في حين يثير هذا الموقف المتداول جدلًا استفهاميًّا عن أسباب اعتماده! هل هو طِبقُ معيار دينيّ أم وطنيّ؟
ولأن الإجابة عن تساؤلات من هذا النمط عادةً ما تتّسم بحريّة فضفاضة من التعبير؛ لذا فإن سلوكيات البشر كانت كفيلة بِعكس رؤاهم. ولا يخفى أن نسبة غير قليلة منهم رجّحت إبراز الهويّة الشخصية على حساب الهويّة العامة، وصادرت حقوق المختلفين عنهم في المبدأ أو الدين؛ نتيجة لتكريس صورة مسبقة وتصوّرات خاطئة دفعتهم إلى رفض الآخر، وهو ما يعني قتل التعدديّة. ولذلك، فإن هذه المواقف تُعدُّ من أبرز المشكلات التي تواجه المجتمع العراقي اليوم، والتي أثّرت سلبًا في سلامته الوطنية، وهي ذاتها بحاجة إلى كيمياء متجددة لسلب خواصّها التطرفيّة، وتنشيط جهازها المناعيّ، لمواجهة الخوف من المصير الرمادي المحتمل.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.